يقول الله جل وعلا في كتابه الكريم واصفًا رسوله : لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، فرسول الله لا يألو جهدًا في نصح أمته والسعي في مصالحهم، بل إنه ـ بأبي هو وأمي ـ يشقّ عليه الأمر الذي يشقّ على أمته ويوقعهم في الحرج والضيق، كيف لا وقد حُفظ عنه عليه الصلاة والسلام في أحاديث متنوعة قوله: ((لولا أن أشق على أمتي...))، كما أنه يحبّ لأمته الخير ويسعى جهده في إيصاله إليهم ويحرص على هدايتهم إلى الإيمان ويكره لهم الشر ويسعى في تنفيرهم عنه، كما أنه شديد الرأفة والرحمة بهم، فهو أرحم بنا من والدينا ومن كل رحيم في هذه الدنيا.
عباد الله، ومن مظاهر رأفته ورحمته بأمته وحرصه على دلالتهم على الخير أنه كان يتعاهدهم بالوصية، فكان يوصيهم ابتداء ويوصيهم إذا طلبوا منه الوصية؛ لأن التواصيَ بالحق من صفات المؤمنين الناجين من الخسارة في الدنيا والآخرة، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر: 2، 3].
ومن جملة وصاياه وصيته لمن أراد السفر، نذكر ذلك ونحن على أبواب إجازة تكثر فيها الأسفار وتتعدد وجهات المسافرين، فما أحوجنا إلى التمسك بوصية نبينا محمد في أسفار.
وبين أيدينا وصية عظيمة وصّى بها النبيّ معاذ بن جبل رضي الله عنه لما أراد أن يسافر إلى اليمن، وكان معاذ رضي الله عنه من النبي بمنزلة عظيمة، فإنه قال له: ((يا معاذ، والله إني لأحبك))، وكان يردفه وراءه، وقال فيه: ((إنه أعلم الأمة بالحلال والحرام، وإنه يحشر قبل العلماء برتوة)) أي: بخطوة. رواه الحاكم. ومن فضله رضي الله عنه أن النبي جعله مفتيا وداعيا وحاكما في أهل اليمن، وكان يشبهه بإبراهيم الخليل، وإبراهيم عليه السلام إمام الناس. فعُلم من ذلك أن هذه الوصية وصيةٌ جامعة مانعة قد حوت الخير كله، فما هذه الوصية؟
روى الترمذي في سننه بسند حسن أن النبي قال لمعاذ بن جبل لما بعثه على اليمن: ((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن)). قال ابن رجب رحمه الله: "هذه الوصية جامعة لحقوق الله وحقوق عباده".
نعم يا عباد الله، ما أحوجنا أن نقف مع هذه الوصية ونحن نحزم أمتعتنا ونعزم على السفر حتى يكون سفرُنا مبرورا، فإن كثيرًا من المسافرين يتزود لسفره بالتزود المعتاد المتعارف عليه من تهيئة وسيلة النقل وترتيب الأمتعة وأخذ الأموال، وربما غفلوا عن الزاد الحقيقي كما نبّه الله تعالى المسافرين إلى الحج لهذه القضية المهمة فقال سبحانه وبحمده: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة: 197]، فالزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه في دنياه وأخراه هو زاد التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار، وهو الموصل لأكمل لذة وأجلّ نعيم.
وهذا ما عناه النبي في هذه الوصية فقال: ((اتق الله حيثما كنت)). التقوى أن يجعل العبد بينه وبين ما يخشاه من ربه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته واجتناب معاصيه، والتقوى من أعظم حقوق الله على العبد. وقد كان النبي إذا بعث أميرًا على سريّة أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله. رواه مسلم. وكان من دعائه في السفر: ((اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى)) رواه مسلم.
ولما كان حال معاذ رضي الله عنه حالَ انتقال من مكان إلى مكان أرشده النبي إلى لزوم التقوى على كل حاله فقال: ((اتق الله حيثما كنت))، فليست التقوى في بلد دون بلد أو حال دون حال، فكم من الناس من لا تتعدى تقواه حدود بلده، فإذا تجاوز حدود بلده تجاوز معها حدود التقوى، وكم من امرأة تتقي ربها ما دامت بين أهلها ومجتمعها، فإذا حلّقت في الفضاء نزعت حجابها وهتكت سترها نازعة قبل ذلك تقوى الله من قلبها، ولا حول ولا قوة إلا بالله. قال : ((تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه)) متفق عليه. فما أجرأ الخلقَ على ربهم إذا تركوا التقوى، أيظنون أن الله لا يراهم؟!
كتب ابن السمّاك الواعظ إلى أخٍ له فقال: "أوصيك بتقوى الله الذي هو نجيّك في سريرتك ورقيبُك في علانيتك، فاجعل الله من بالك على كلّ حالك في ليلك ونهارك، وخف الله بقدر قربِه منك وقدرته عليك، واعلم أنك بعينه ليس تخرج من سلطانه إلى سلطان غيره ولا من ملكه إلى ملك غيره، فليعظم منه حذرُك، وليكثر منه وجلك، والسلام".
إن العجيب ـ يا عباد الله ـ أن بعض المسافرين ليس لهم قصد من السفر إلا تغيير جوّ الحر اللافح إلى الجوّ البارد العليل، ونسوا أنهم بتركهم لتقوى الله قد عرّضوا أنفسهم لحر شديد لا يطيقونه، قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81].
فالبدار البدار ـ يا عباد الله ـ إلى تحقيق التقوى والتمسك بها، فتقوى الله عوض من كلّ خلف، ليس من تقوى الله خلف.
بارك الله لي ولكم بالقرآن الكريم...
|