أما بعد:
فيا أيها الناس: اتقوا الله تعالى، وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وأعرضوا ما تكسبون من الأموال على شرع الله، فما أحله الله لكم فكلوه هنيئًا مريئًا، وما حرمه عليكم فلا تُقْدموا عليه، وتباعدوا عنه، واتقوا يومًا تعرضون فيه على الله لا تخفى عليه منكم خافية، فأنبتوا أجسامكم وأولادكم وأهليكم نباتـًا حسنـًا، وذلك بتغذية الأرواح بمحبة الله ومحبة رسوله، وغذوا أجسامكم بالطيبات من المأكولات والمشروبات، فالجسد الذي ينبت على السحت والحرام النار أولى به. فأيكم يريد أن تكون النار مصيره، وجهنم مأواه، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فأمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، وقد أمر المرسلين بأكل الطيبات، وعمل الصالحات. قال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلرُّسُلُ كُلُواْ مِنَ ٱلطَّيّبَـٰتِ وَٱعْمَلُواْ صَـٰلِحاً إِنّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون:51]، وقال: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ كُلُواْ مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَـٰكُمْ وَٱشْكُرُواْ للَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [البقرة :172]. وقال تعالى: يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرّمُواْ طَيّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ [المائدة:87]، وقال تعالى: وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِى أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ [المائدة:88].
فلزامًا على المسلم ألا يعتدي – بمعنى لا يتجاوز – ما نهاه عنه الله، فمن خالف أمر الله بأكل الحرام، فهو المعتدي، ولا يرضى المسلم أن يخرج نفسه عن نطاق محبة الله باعتدائه؛ لأن الله يقول: إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ [المائدة:97]، وحينئذ تثبت محبة الله للملتزمين أوامره، الواقفين عند حدوده، فما حياة المسلم وما عيشته الهنيئة حينما يعرض نفسه للاعتداء، والله يعلم منه خائنة الأعين وما تخفي الصدور، يعلم الضمائر والسرائر وسوء النوايا والطوية جهر المسيء بقوله أم أسر، سمى الحرام باسمه أم باسم آخر، وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ ٱجْهَرُواْ بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ % أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ ٱللَّطِيفُ ٱلْخَبِيرُ [الملك :13،14].
أيها المسلمون: إن من طرق اكتساب المال الذي حرمته شريعتنا تحريمًا جازمًا يكفر من استباحه، ويفسق من عمل به دون استباحة، الرشوة للقائمين على الأعمال الحكومية، شدد الشرع على أخذها ودافعها والساعي بينهما، بأن جعلهم مطرودين عن رحمة الله متعرضين لسخطه وغضبه، قال : ((لعن الله الراشي والمرتشي))، وما دخلت الرشوة عملاً إلا عاقته، ولا مجتمعًا إلا أفسدته، فكل منهم ظالم، المرتشي لأخذه الذي يحمله على الجور في حكمه، أو التساهل في عمله، والغلظة على من لا يدفع شيئًا، وتقطيب وجهه أمامه حتى يجعله يهاب من مراجعته والدافع لها عون كبيرٌ على الظلم، وعلى تشجيع الظالمين، ومفسد لقلوبهم على الآخرين، الذين تأبى أذواقهم السليمة، ومظهرهم المستقيم، وعقيدتهم الحية عن دفع الرشوة، والساعي بينهما راض لفعلهما، ومقر لمنكَرهما، والراضي كالفاعل.
وما اشتهر بها أحد ما اشتهرت اليهود به، فإن الله ذمهم وعابهم، كما ذمهم على الكذب، ووصفها الله بأنها سحت، فهي سبب لسحت الدين أو البدن أو المال، بمعنى محوه، وذهابه أو إزالة بركته، وكل هذا غير مراد للمسلم، قال تعالى:سَمَّـٰعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّـٰلُونَ لِلسُّحْتِ [المائدة :42]، قال المفسرون: هي الرشوة في الأعمال ممن ولته الدولة براتب معين على أي عمل من أعمال المسلمين كثيرًا أو قليلاً، كبيرًا أو صغيرًا، فإنه لا يحل له أن يأخذ شيئًا من أي فرد من الأفراد الذين ولي مصالحهم، وإن كانت في جانب القضاة والأمراء والرؤساء فهي أشد حرمة، قال :((من استعملناه على عمل ورزقناه عليه رزقًا، فما أخذ بعد ذلك فهو غلول)).
أيها الموظف المسلم: عليك بمراقبة الله؛ ليصلح عملك، وطهر مالك؛ يبارك الله لك فيه، فلا تأخذ بسبب عملك شيئًا من هذا السحت بغير طريقة مشروعة، سواء من بيت المال، أو من أفراد مراجعين، والمعقبين لمصالحهم وشؤونهم، واربأ بنفسك عن أن ترويها إلى هذا الخط، ولا يعم شؤمك مجتمعك، فيفسد عملك فتصبح خائنًا لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم، والرشوة ما وقعت للموظف بطلب، تلميحًا أو تصريحًا، سواء المدفوع مالاً أو عملاً يحمله على إنجاز عملك دون طلب باسم الهدية أو كرامة أو قهوة أو نحوها، مما اصطلح عليه الناس وأسموه بأي اسم، وما قدم هذا للموظف إلا بعد توليه هذا العمل؛ ليستميل قلبه، ويجذب ميوله، فإن ذلك كله يكون رشوة محرمة، وإن اختلفت الأسماء، فالبلاء واحد، والنتيجة والمحذور حاصل.
بعث النبي رجلاً يعمل على الزكاة، فلما رجع إلى النبي دفع إليه الزكاة، وبقي شيء في يده، فقال الرجل: هذا لكم وهذا أهدي إليَّ. فقام النبي خطيبًا ومعلمًا ومؤدبًا ومرشدًا وواعظًا وناصحًا ومشرعًا، فقال: ((ما بال أقوام نوليهم على العمل فيرجعون يقولون: هذا لكم وهذا أهدي إلي، أفلا جلس في بيت أمه حتى يهدى إليه؟!))، يريد النبي أن يبين أن هذه الهدية التي بسبب هذه الولاية على العمل، إنما هي حرام، وممنوع منها العامل.
أما إذا كانت الهدية لكسب الود والألفة والمحبة في الله، ومن أجل الله يبتغى منها وجه الله سبحانه لمن لا عمل له فهذه هي الهدية الجائزة، بل والمستحقة، كما قال : ((تهادوا فإن الهدية تسل السخيخة))، والهدايا التي تدفع لمن بيده عمل هي المحرمة، كالطبيب وسائر العمال، فإنها تحمل الطبيب على أن ينصح لمن أهدى إليه ويصرف له الدواء الجيد، وعكس ذلك يغفل عنه ويحول بينه وبين الدواء، وكذا سائر الأعمال، قال : ((هدايا العمال سحت))، ما هذا إلا لسير المسلمين على طريقة التعاون والتكاتف وأن يحب أحدهم ما يحبه لنفسه، وهذه من أقوى دعامات المجتمع الإسلامي وأركانه وقواعده.
وكثيرًا ما يأتي في خطاب القرآن إضافة ما لبعض المسلمين للآخر اعتبارًا منه أن المسلمين يد واحدة، وتماسكهم كالحلقة المفرغة لا يُدرى أين طرفاها، قال تعالى: وَلاَ تُؤْتُواْ ٱلسُّفَهَاء أَمْوٰلَكُمُ [النساء:5]، فاعتبرها أموالاً للعقلاء مع إنها أموال السفهاء، ليحفظوها كما حفظوا أموالهم الخاصة.
وقال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ [النساء:29]، ناهيًا للمسلمين أن يقتل بعضهم بعضًا، فجعلهم كالنفس الواحدة. فيا لها من تعاليم سامية، وتشريعات عالية، لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله لعجزوا ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا.
فاتقوا الله – أيها المسلمون – وجنبوا أنفسكم عن الحرام، ونزهوا بطونكم وشرابكم ولباسكم عن الحرام حتى يبارك الله في صحتكم وفي ذريتكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: إِنَّ ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّـٰلِحَاتِ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً % أُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهِمُ ٱلانْهَـٰرُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى ٱلاْرَائِكِ نِعْمَ ٱلثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:30،31].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب. فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|