أمّا بعد: فيا عبادَ الله، إذا وقفَ العبادُ على الصراطِ يومَ القيامةِ نادَى الله تعالى وقال: أنَا الله، أنَا الملك، أنا الديان، وعِزَّتي وجلالي لا يغادرُ هذا الصراطَ واحدٌ من الظالمين، ثم ينادِي ملَك من قِبَل الله تعالى فيقول: أينَ الظلَمَة؟ أين أعوانُ الظلَمَة؟ أين مَن برى لهم قلمًا؟ أين مَن ناولهم دَواةً؟ ثم تنادي جهنّمُ على المؤمنين فتقول: يا مؤمِن أسرع بالمرور عليَّ فإنَّ نورَك أطفأ ناري.
إذا وقف العبادُ على الصراط ـ يا عبادَ الله ـ والصراطُ جسر مضروبٌ على حافّة جهنّم، وهو أحدُّ من السيف، وأرقّ منَ الشعرة، إذًا فأين يذهب الظالمون؟! ما هو مصير الظلمة؟! وما أكثرَ الظلمة في هذه الأيّام. فاستمعوا ـ أيها المؤمنون ـ لقول الباري جلّ في علاه: فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا [مريم: 68-72] صدق الله العظيم.
يُحضَرون جِثِيّا على رُكَبِهم لشدَّة ما هم فيه لا يقدرون على القيام، فإياكم والظلمَ يا عباد الله؛ فإنَّ الظلم ظلماتٌ يومَ القيامة.
كما وضَّح القرآن الكريم صُورًا وأَلوانًا متعدِّدَة من صوَر الظلم المحرّم، ومن هذه الصّوَر:
أولاً: الصّدُّ عن بيوت الله تبارك وتعالى ومنعُ الذكر في المساجد وأداءِ الصلوات ودروسِ العلم النافع، لقول المولى تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُوْلَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلاَّ خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة: 114].
وأنتم تَرونَ ـ أيّها المؤمنون ـ كيف تُمنَعون من دخولِ المسجد الأقصى أو الوصولِ إليه لأداء الشعائرِ الدينيّة، لأداء الصلوات التي أمَر الله تبارك وتعالى بها، أصبَحَ شبابُنا يُمنَعون من دخول المساجد، أصبَحوا يُمنَعون من الوصول إلى المسجد الأقصى.
ثانيًا: كَتمُ الشهادة عند طَلبها، لقوله عز وجل: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ [البقرة: 140]. كَتمُ الشهادة ـ يا عباد الله ـ وشهادةُ الزور وقَلب الحقِّ إلى باطل وضياعُ الحقوق، فكم مِن حقوق ضُيِّعت، وكم من حرمات انتُهِكت، وكم من أعراضٍ أُهينت، وكم من دماء أُريقت، كم من أرواح أزهِقَت، كم من شعوبٍ اضطُهِدت، كلّ ذلك بسبب كتمِ الشهادة وقول الحقّ ابتغاءَ مرضاة الله تبارك وتعالى. فإياك ثم إياك ـ أيها المسلم ـ أن تندرِج تحت قولِ الله تبارك وتعالى: وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة: 283].
ثالثًا: عدمُ الحكم بما أنزَلَ الله تبارك وتعالى وعدمُ تحكيم شريعة الإسلام، لقوله تبارك وتعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [المائدة: 45]. فأنتم ترَونَ حكَّامَكم كيف لا يحكُمون بأحكام الإسلام، ولا يعمَلون لقيام دولة الإسلام، ودوَل الكفر تتسلَّط عليهم، وبعضُ من يدّعي الإسلام زورًا يساعِدهم على ذلك ويزيِّن لهم أعمالهم ويصدُّهم عن السبيل المستقيم، وذلك لخفَّة أحلامِهم وقِلّة عقولهم وهوانهم على الله.
جاء رجل إلى الإمامِ سفيان الثوريّ رحمه الله تعالى فقال: إني رجل أخيط ثيابَ السلطان، فهل أنَا من أعوان الظلمة؟ فقال الإمام الثوريّ: بل أنت من الظَّلمَة أنفسهم، ولكن أعوان الظلمة مَن يبيع منك الإبرةَ والخَيط.
فانظروا ـ أيها المسلمون ـ لهذا الفهمِ الدقيق لسلَف الأمة مِنَ الوقوع في الظلم، فمن أعان ظالمًا على ظُلمه أو لقَّنه حجّة يدحض بها حقَّ امرئ مسلم فقد باءَ بغضب من الله تبارك وتعالى وعَليه وزرُها.
رابعًا: من ظلَم قيد شبرٍ من أرضٍ فأخذها بغيرِ حقٍّ، وهذا من أشدّ صور الظلم، فقد أخرج الإمام البخاريّ ومسلم عن سعيد بن زيد أنَّ رسول الله قال: ((مَن اقتطع شبرًا من الأرض ظُلمًا طوَّقه الله إياه يوم القيامة من سبع أرَضِين)). والمراد من قوله: ((طوَّقه)) أنّه يعاقّب بالخسف إلى سبعِ أرَضين، أي: فتكون كل أرض في تلك الحالة طَوقًا في عنقه، فمن يستطيع أن يتحمل هذا يا عباد الله؟!
فاتقوا الله وكُفّوا عن ظلمِكم، كفّوا عن عصيانكم وطغيانكم من قبل أن يأتي يوم لا مردَّ له من الله، وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الزمر: 55].
عباد الله، يقول الله تبارك وتعالى: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إبراهيم: 42].
فيا من زلَّت قدمه بظلم أخيه في الدنيا، بادر إليه، واطلب منه أن يسامحَك، وتحلَّل من مظلَمَتك في الدنيا قبل أن لا يكونَ دينار ولا دِرهم، وإنما يكون التعامُل هناك والعُملة الصَّعبَة يوم القيامة هي الحسنات والسيِّئات، أتدرون لماذا يا عباد الله؟ لأنّنا سنكون حفاةً عراةً لا نملك شيئًا، فاستبرئ ذمَّتَك في الدنيا قبل الآخرة، اذكُر عندَ الظلم عدلَ الله فيك، وعند القوّة قدرةَ الله عليك.
عباد الله، لا تملؤوا أعينَكم من أعوان الظلمة إلا بإنكارٍ من قلوبكم؛ لئلاَّ تحبط أعمالُكم الصالحة، واحذروا غضبَ الله؛ فإنه يمهل ولا يهمل.
لا تظلِمَنّ إذا مـا كنـتَ مقتدرًا فالظلـمُ يرجع عقبـاه إلى النّدمِ
تنـامُ عينـاك والمظلـومُ منتبِـه يدعـو عليـك وعيْن الله لم تَنَمِ
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسولُ الله : ((إنَّ الله يملي للظالم فإذا أخذَه لم يفلته))، ثم قرأ قوله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102]، ومعنى ((يملي للظالم)) أي: يمهِله ولا يعاجِله بالعقوبة، ومعنى ((إذا أخذه لم يفلِته)) أي: إذا أهلَكَه لا يرفَع عنه الهلاكَ أبدًا.
رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنْ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [يونس: 85، 86].
عباد الله، توجّهوا إلى الله تبارك وتعالى، وادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، فيا فوزَ المستغفرين، استغفروا الله.
|