أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70-71].
معاشر المسلمين، لا تزال انتفاضة الأقصى أبيّةً متوهجة، محروسة بالأرواح المبذولة والدماء الدفاقة والشجاعة النادرة، ولا تزال غاضبة مدوية تكتسح دبابات اليهود، وتصارع راجماتهم وقاصفاتهم، ولا تزال هذه الانتفاضة المجاهدة تأبى ممارسة الهوان وسلام الشجعان، وترفض بحجارتها وقوتها وأد البطولات وتجميد الفدائيات.
لقد ملّت هذه الانتفاضة أماني العلمانيين ووعود القوميين وشعارات المارقين الذين فصلوا الأمة عن دينها، وأذاقوها مرَّ النكسة والهزائم المتلاحقة، فكان الأمر كما قال بوق الشعارات:
أدمـت سيـاط حزيـرانٍ ظهـورهمُ فأدمنوها و باسوا كفَّ من ضربـا
وطالعـوا كتـب التاريـخ واقتنعـوا متى البنادق كانت تسكن الكتبـا
سقـوا فلسطيـن أحـلامًـا منوِّمـة وأطعموها سخيفَ القول و الخطبا
عاشوا على هامش الأحداث ما انتفضوا للأرض منهوبةً والعرض مغتصَبـا
وخلّفوا القدس فِي الأوحـال عـاريةً تبيـح عزة نهديهـا لمـن رغبـا
أين الشعارات أين الْمالئون بها الدنيـا لكـم زوروا التاريـخ والكتبـا
فلا خيـول بنِي حمدان راقصةً زهـوًا ولا الْمتنـبـي مـالـئ حلبـا
وقبر خـالـد في حِمـص نلامسـه فيَرجف القبْر من زواره غضبـا
يـا رُبَّ حـي تراب القبْر مسكنـه و ربَّ ميْتٍ على أقدامه انتصبـا
يـا ابن الوليـد ألا سيفٌ تؤجّـره فكل أسيافهم قد أصبحت خشبا
أيها الإخوة، عدنا إلى الانتفاضة لنجدّد العهد بها، ونزيد في مدتها، ونبث حديثها ووعيها. فليست الانتفاضة إقليمية تخص أهل فلسطين، وليست عرقية ليحتويها دعاة القومية، وليست هزلية ليقودها سلام الشجعان! إن هذه الانتفاضة انتفاضة إسلامية، تعتصم بالله، وتتوكل عليه، وتذكّرنا بالأبطال والرّجال من أهل الإسلام، وهي تصيح بنشيدها: خيبر خيبر يا يهود، جيش محمد سوف يعود.
نعم، إنّا لنرجو أن تكون هذه الانتفاضة مفتاح الجهاد والانطلاقة، ونافذة التضامن والاجتماع، وطريق النصر والظهور، والنهاية القاصمة لليهود وأذناب اليهود.
أيها الإخوة الكرام، يتساءل كثيرون وبعد مضي هذه الأشهر وضعف التغطية الإعلامية والشعبية للانتفاضة: ما دوري في الانتفاضة؟ وماذا تحتاج مني؟
ونقول: إن دوركم عظيم ـ يا مسلمون ـ تجاه انتفاضة الأقصى، وتجاه أطفال الحجارة والدماء السيالة، وتجاه العدو اللدود للإسلام وأهله.
فأول واجب علينا تجاه هذه الانتفاضة وعي القضية الفلسطينية، لا بد أن يعي أهل الإسلام من كبار وصغار ورجال ونساء ومثقفين وعامة أن هذه قضية الأمة ومصير الإسلام، وأن فلسطين إسلامية وليست عربية، وأنها جهاد لا نضال، وحماتها أهل الإسلام لا عصبة الرفاق، فأمتنا المنكوبة:
أودت بها قوميةً مشؤومة ومضى بها نحو الضياع رفاقُ
لا بد أن يعي المسلمون أن الصراع مع اليهود صراع ديني، وليس على أشجار الزيتون أو بساتين الليمون، وليس على حقوق الإنسان أو قرارات الشرعية الدولية. إن صراعنا مع اليهود صراع عقائدي، يؤكده قول الله تعالى: وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ [البقرة: 120]، ويشرحه قوله تعالى: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا اليَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا [المائدة: 82]، فأعدَى عدوٍّ للمسلمين اليهود، وأخبث أمة في حرب الإسلام والكيد له هم اليهود، فما أعددتم لهؤلاء يا مسلمون؟!
ومن وعي القضية تربية الجيل والناشئة على عداوة اليهود، ونشر ذلك في حياتهم، والعناية بها كالطعام والشراب، واستنفار الأمة ضد هذا العدو على كافة المجالات.
والانتفاضة بحاجة ماسة إلى الدعم المادي لضمان بقاء المواصلة، وهي بحاجة إلى الدعم المعنوي القائم على النصرة والتأييد بالعواطف والمشاعر الصادقة. وكم هو قبيح أن نأكل ملء بطوننا وننام ملء جفوننا ونعتبر قضية فلسطين من ضمن مشكلات العالم المعقّد، وهذه مشكلة أخرى تورط فيها كثير من المثقفين والمفكرين تقليدًا للقوميين والعلمانيين الذين جعلوا القضية المسلمة بمنأى عن عقيدة المسلمين. وهذا منهم يأتي تلبيةً لمطالب اليهود في جعل القضية الفلسطينية تمارَس في محيط عربي بعيدًا عن العقيدة والمبدأ والشهادة؛ ولهذا لم يدخل الإسلام في المجابهة مع اليهود إعلاميًا ورسميًا، والله المستعان.
معاشر الغُير، أبناؤكم الذين رُبوا على الكراتين والحدائق والألعاب اصنعوا خلال ذلك قضية العداء لليهود وإحساسهم بقضية فلسطين، وأنها جزء من حياتهم ومستقبلهم، واعلموا أن التربية في الصغر لا يضاهيها تربية، وما انحرف كبار المثقفين تجاه القضية إلا بسب خوائه صغيرًا وانعزاله عنها همًا وفكرًا وعاطفة.
الشيخ الكبير يُعلَّم أن يدعو للمسلمين بالنصر والتثبيت، وأن يهتم بأمورهم وشؤونهم، والمرأة العجوز الصائمة القائمة تُحسَّس بضرورة الدعاء على اليهود بالهزيمة والدمار والتمزيق. يجب أن تُنقل المشاعر المسلمة إلى فلسطين وغيرها من البلاد الإسلامية المنكوبة تحقيقًا لوحدة المسلمين واهتمامًا بأمورهم وتضامنًا ضد أعدائهم.
إن الأمة المسلمة بشيوخها وشبابها وصغارها تملك الدعاء والتوجه إلى الله، وتملك أن تصرفه للإخوة في فلسطين، وهذا نوع من التضامن ونوع من المشاعر الصادقة تجاه جنود الأقصى العزَّل الذين يجب علينا دعمهم ومساعدتهم والوقوف بجانبهم.
هذا يوم الجمعة يوم عظيم، فيه ساعة إجابة من آخر وقت العصر كما صح بذلك الحديث، هل تعجز عن الدعاء فيها للمسلمين في الأرض المحتلة، وأن يسدد الله سهامنا على اليهود، أن يقتلهم ويخذلهم، ويمزقهم شر ممزق؟! مليار وربع المليار، هل يتقاعسون عن الدعاء وهو أسهل واجب يمكن تؤديته للإخوة المسلمين؟! وهل يعز أن يكون في المليار أشعتْ أغبر ذو طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره؟! أصحاب القيام والأسحار والأذكار هل يعجزون عن الدعاء للمسلمين بالنصرة والظهور؟!
إن الجميع يملك ذلك كله، ولكن لضعف التربية وهوان الإقبال والعزلة الفكرية بات كثير منا لا يفكر في ذلك كله، فضلاً عن الاهتمام به، والله المستعان.
كان النبي وهو في المدينة وقد منَّ الله عليه بالأمن والراحة يدعو للمستضعفين في مكة، وقد مكث شهرًا يدعو على قتَلَة القراء في حادثة بئر معونة. وكان يقول: ((المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا)) وشبك بين أصابعه، وكان يقول: ((مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر)).
اللهم اجمع كلمتنا، ووحّد صفوفَنا، وانصرنا على عدونا...
|