أما بعد: فإن أصدق من الحديث كلام الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الإخوة الكرام، هذه رسالة من صادق الرسائل، حاوية معالم الخير والفضائل، تهفو إلى الإخوة الخريجين الأماثل، رسالة ملؤها الحب والإخاء والصدق والوفاء، أردت بها نشر خير منعوه، وسقيَ زرع حرقوه، ليست بيانَ تشهير وتجريح، بل نصح واجب صريح، ولم تكن سهامَ بغي وتثريب، ولكنها أعلام عدل وتصويب. قال : ((الدين النصيحة))، وفي الصحيحين: قال جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: بايعت رسول الله على النصح لكل مسلم، وقال علي رضي الله عنه: (إن المؤمنين قوم نصحَة بعضُهم لبعض، وإن المنافقين قوم غَشَشة بعضهم لبعض، متخاونون وإن قربت ديارهم وأبدانهم).
الخريجون هم مشاعل الهداية وذخيرة الوطن، وعدة المستقبل ومعلمو الخير، خريجو الجامعات والكليات والمعاهد، هم عز الأمة وفخرها وتاجها وحضارتها. إن الأمة فخرت بخريجيها، وإن الوطن إذا اعتز بشبابه الخريجين فعلى الخريجين أن يحفظوا أمتهم ولا يتنكروا لها، ولا يكسلوا عن حمل الرسالة المنوطة بهم.
تحية عاطرة أيها الخريجون النبلاء، شكر الله سعيكم، وسدد خطاكم، وبارك فيكم، وإنكم قد تعلمتم في الجامعة علومًا وفنونًا وآدابًا وتربية تعود عليكم وعلى أمتكم بالخير والصلاح، فما دوركم تجاه دينكم وأمتكم ومجتمعكم؟ قال تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الحجر: 92، 93].
إن التأهل العلمي يعني مفارقة أحوال الهمج والدهماء، ويعني للخرِّيج نضوج الفكر وثراء الثقافة ومتانة العلم، فهل نعي هذه القضية يومًا من الأيام؟ إنه ليقبح بالخريج أن يكون ضيَّع العلوم الجامعية المفيدة ويشكو نسيانها وذهابها.
إن من مهام الخريج نفعَ أمته بالعلم الذي حفظه ودرسه، ومن مهامه بثّ الوعي ونشر الفكر السليم وحمل الفضائل وتبليغها، ومن مهامه إيصال كل نافع ومفيد. أخرج الشيخان عن أبي ذر رضي الله عنه قال: يا رسول الله، أي الأعمال أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله والجهاد في سبيل الله))، قلت: أي الرقاب أفضل؟ قال: ((أنفسها عند أهلها وأكثرها ثمنًا))، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعًا أو تصنع لأخرق))، قلت: يا رسول الله، أرأيت إن ضعفتُ عن بعض العمل؟ قال: ((تكف شرك عن الناس، فإنها صدقة منك على نفسك)).
إن الخريج الواعي هو من يطلب معالي الأمور وساميها ويعزف عن سفاسفها وترهاتها، إن الخريج يمثل مرجعية شرعية في حيه، يحتاجه الناس في كثير من القضايا والأمور.
إن العلم الذي حصلته في الجامعة قائدُك إلى الخيرات والطاعات، وأنيسك في المجالس والخلوات، إنه تاج رأسك وعنوان هدايتك وبصيرتك.
تأكد أنك محسوب على الأمة والوطن في العلم والعمل والفكر، والناس يضعون عليك أحلى العبارات وأجملها، ويحمدون فيك علو الهمة والصبر الطويل والتفوق الدائم.
ولقد قضّيت ـ أيها الخريج ـ في الجامعة وقتًا ليس يسيرًا، فاجعل عاقبته حميدة، فقد قرأت وحفظت وظفرت بمعارف كثيرة، وكم هو مؤسف أن تنتهي ثقافة الخريج إلى صحيفة رياضية أو مسلسل هابط أو فكرة متهافتة.
ما أعظم سرور أهلك وفرحتهم بتخرجك ونجاحك، فتوِّج هذه الفرحة لما هو أنجح بحقّ تجاه ما عملت وتعلمت. إنني أهنئك وأحييك من على هذا المنبر على نجاحك وهمتك وإصرارك الثابت.
يا مسلمون، ماذا أقول في وصف أناس زكتهم أمتهم وصانتهم واستأمنتهم على علومها وإمكاناتها ومقدراتها؟! إننا مع اعترافنا بفضل هذا الخريج وسمو منزلته نراه أحيانًا يأنف أن ينادَى باسمه أو: يا طالب علم، مجردًا من أوصاف الإكرام والتقدير، إنّ هذا الخريج لا يرضى بكل حال أن ينسب إلى الجهل أو الخطأ مع إصراره عليه، إنه لا يحب أن يتلقى العلم والفائدة ممن هو دونه.
إنك كثيرًا ـ أخي الخريج ـ ما تعترض على النقد السليم المنضبط بالحدود والقيود، وتعتبر نفسك فوق مستوى النقد وأيًا كانت أهدافه ومنافعه. إن الخريج ينبغي أن لا يأخذه الغرور وتمجيد الذات والترفع على الناس، بل عليه أن يشمخ ويعتز بضد ذلك من التواضع واللين وخفض الجناح للمسلمين. قال الرسول كما في صحيح مسلم: ((إن الله أوحى إلى أن تواضعوا، حتى لا يبغي أحد على أحد، ولا يفخر أحد على أحد)).
إن الوعي فيك ـ أيها الخريج ـ ليس في حد التعاظم بهذه الشهادة أو التماس رفيع الألقاب أو قصد الشهرة والظهور، إن الوعي فيك عملك بالعلم والقيام بالأمانة التي حُملتها من نشر الحق وتبليغه والذود عنه. إن تمام الوفاء للأمة ليس بالانتساب إليها فحسب أو التصنع أو التكلف أو التطبيل أو التصفيق، إن الوفاء والإخلاص لها أن يقودها إلى رحاب الهداية وصدق الرعاية، أن تخرجها من الظلمات إلى النور، أن تهديها إلى الصراط المستقيم.
إن إخلاصك لمجتمعك أن تنقذه من الهلاك والسقوط، أن تطهره من الرذائل والمخالفات، أن تسعى إلى نهضته ورقيه بالحق والهدى والنور. قال تعالى: فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ [هود: 116].
مأساة: خريج جامعة أبق من المسجد وخلع الإمامة ورفض الدعوة وسود الصحيفة ولم يقض حق التعليم والعلم. خريج شريعة جعل من شهادته سلَّمًا لخطر دنيويّ وذريعة للذة زهيدة وطريقًا لحياة فانية، قال تعالى: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الكِتَابِ أَن لاَّ يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ [الأعراف: 169]. خريج جامعة قرأ القرآن فقبره في الجَنان، ودرس الآثار ولم يسلك طريق الأخيار، استمع المحاضرة فكانت عنده كلمة عابرة. خريج نبيه عجز وجَبُن وخاف وضَعُف، سأله الحي الإمامَةَ فاعتذر بقِصَر القامة وأنها أمانة، ودعي لمأدبة وكرامة فلبى باشتياق وسلامة. شدا مغن خبيث بل قل: مغنية مومِسة أمام خمسين ألف نسمة، واستحيا معلم الدين من إلقاء كلمة!
خريج مرموق له سنوات طوال لم نظفر منه بذكرَى ولا موعظة، طعن وتينَه بخنجر الكسل وأحرق علمه بوقود السفه والطيش، وفي الحديث: ((بلغوا عني ولو آية)).
أقيمت الصلاة في مسجد ما، فدُعي المستقيم فتنحى، وتقدم الجاهل على حرَج وشكوى، فكسر القرآن تكسيرا، وصدع: إن الله كان غفورًا رحيما. خرج المنصِّرون إلى الأرياف وتقاعس الخريجون بالآلاف!
أفلح الطبيب في مهنته كالخبير، وقام الضابط بنشر الأمن كالنِّحرير، والمسؤول جاهدًا يقوم بعملية التنمية والتطوير، والخريج عجِز ضرير لا في العير ولا في النفير!
تجلَّد الفاجر وتماسك، ونكص الصالح وتهالك، وقال عمر رضي الله عنه: (اللهم إني أعوذ بك من جلَد الفاجر وعجز الثقة).
قيل لجامعي: تكلم، فقال: لا أحسن الكلام، قيل: اخطُب، فقال: لا أملك الصوت الرنان، فقلنا: ألست من حملة الذكر والقرآن ولك منطق واضح وبيان؟!
لفظ أبو جهل حين الهلاك والإعدام كلمات الكبرياء والغطرسة، وهاب الخريج المسلم مقالة الحق والفضيلة وقت الرخاء والعافية.
تخلف خطيب الجمعة لعذر وسقم، فتدافع الخطابَةَ ثلاثة خرّيجون، فقال الأول: إني ضعيف ومقصر، وقال الثاني: فلان أقدر وأخطب، وقال الثالث: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم أخذها غَيرة على شعائر الله.
خريج مثقف الدّشُّ فوق رأسه قد رفرف، وابنه على الرصيف سادر يهرف، خرب بيته بيده وقتل ابنه بسيفه، هل أتلو عليكم خبر الذي رُزق الآيات فرام المتعة واللذات؟! وهبه الله منحة وعلمًا فما أحدث له همةً وهَمًا.
كالعيـس فِي البيداء يقتلها الظما والمـاءُ فوقَ ظهورهـا محمـولُ
إنه لهتك للعلم وإطفاء للمعرفة وخلل في الفكر جري الخريجين وراء لوثات الثقافة وقراطيس التلهية وحارقات الأوقات.
يا معاشر الإخوان، إن هذه المنطقة شاكية باكية، ترثي شبابها وأبناءها، إذ اكتظت بخريجين من ذوي الصلاح والاستقامة، ونوابغ ذوي علم ومعرفة، وتخلوا عن بنائها، وقصروا في عمارتها، روى أبو داود والترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي قال: ((من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار)).
أضحى المسجد باكيًا يبغي إمامًا، والمنبر يتوق خريجًا همامًا، والسنة ترجو ناشرًا مِقدامًا، والدعوة تشتاق أنصارًا وأعلامًا، قال تعالى: وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ [محمد: 38].
سبحان الله! لماذا الانسلاخ من الحق والتحرر من المسؤولية والفرار من المبدأ؟!
قوم خريجون درسوا وتعلموا وقرؤوا وحفظوا، ثم تخرجوا ولم يصنعوا شيئًا، إنهم ليسوا بسطاء في العلم والفهم، يملكون قدرات وطاقات ولكنها تبدّدت بجانب الضعف والكسل، وغرتهم الدنيا وطول الأمل، عجبًا إن رمت دورهم فإذا هي قفار موحشة أو زرت مجالسهم كانت مفاوز معطلة، واها لمن زارها أو قصد من خيرها ونفعها.
فاستعجمت دارُ نعمٍ مـا تكلمنـا والدار لو كلمتنا ذات أخبـارِ
فمـا وجدت بها شيئًا ألـوذ بـه إلا الثمـامَ و إلا موقد النـارِ
أجساد عظيمة هوت أمام هوى الروح، وعقول واعية همت أمام عزم المعرفة، وجهود جبارة كلّت أمام تحديات العصر، ثبت في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أن النبي قال: ((الناس كإبل مائة، لا تكاد تجد فيها راحلة)).
اللهم أيقظ غفلتنا وعلمنا ما ينفعنا...
|