.

اليوم م الموافق ‏21/‏جمادى الأولى/‏1446هـ

 
 

 

التنويه بآية الكسوف

5352

الرقاق والأخلاق والآداب, فقه

آثار الذنوب والمعاصي, الصلاة, الفتن

حمزة بن فايع الفتحي

محايل

18/5/1418

جامع الملك فهد

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

ملخص الخطبة

1- الله جل وعلا يرسل هذه الآيات تخويفا للعباد. 2- وجوب الاهتمام بأمر الآخرة. 3- قلة خوف الناس من آية الكسوف. 4- حقيقة الكسوف. 5- علم البشر بحصول الكسوف قبل وقوعه لا ينافي السبب الشرعي منه وهو تخويف العباد.6- الواجب عند رؤية الكسوف. 7- صفة صلاة الكسوف. 8- ما يُشرع للإمام فعله. 9- ما كان يفعله إذا رأى الكسوف.

الخطبة الأولى

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].

أيها الناس، إن النفوس مجبولة على الخوف من المرهوب، ومجبولة على توقي المخاطر والأهوال، وإنه لمن الحمق بمكان أن يسعى الإنسان لإبادة نفسه بلا سبب أو يقوم بإحراق مزرعته أو إتلاف ماله بلا مسوِّغ محمود لذلك. تأمل ـ أخي رعاك الله ـ لو قيل لك وقد كنت في مبنى أو مجمع معين: وقع حريق مهول، ماذا يكون موقفك؟ وما أنت صانع؟ ستبقي أم تنجو بنفسك؟ وتخيل ـ رعاك الله ـ لو كنت سائرًا إلى مدينة ما ثم قيل لك: إن الطريق موحش ولا يحمد أبدا، ماذا ستصنع؟ هل ستكمل السفر أم تؤجّل الرحلة؟ وتخيّل ـ وفقك الله ـ لو أن رئيسك في العمل كان غليظًا شديدا نظاميًا صِرفا لا يقبل معاذير من جاء معتذرا وبدر منك ما يوجب العقاب على مذهبه، أي حالٍ تصير إليه؟! تقطيب في الوجه، وتنحية عن مهامٍ جليلة، وخصمٌ من مالك وراتبك، ومعاملة سيئة أبدا.

واعلم وتيقن ـ أخي ـ غاية الإيقان أن الله عز وجل يرسل الآيات تخويفًا للعباد، ويبعث النذر تحذيرًا للناس، ويخسف القمر إرهاصات غضب وابتلاء. فإن كنت سالفًا تهيئ نفسك للنجاة من الحريق وتُطفئ النار بالماء وتسلك الطريق النظامي الآمن وتُرضي رئيسك في العمل وتكسب وده ومحبته فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [التوبة: 13].

أيها المسلم الواعي، يُلحظ عليك أنك تبني دنياك بناءً شامخًا، فتشيد عمارتك، وتحسن منصبك، وتجمّل سيارتك، وتغذّي جسدك وأجساد أبنائك. وحسنٌ ذلك إذا سلكنا فيه الاعتدال ولم نتجاوز فيه الحدود. لكن قل لي بربك: هل بنيت دينك وإيمانك كما بنيت دنياك ومصالحك؟! هل أطفأت ظلمة المعصية بنور الطاعة والهداية؟! هل سعيت في إصلاح الطريق إلى الله عز وجل أم تركت فيه الأشواك والعراقيل التي تسيئك يوم الحساب؟! مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارا [نوح: 13، 14].

أيها المسلمون، لقد وقع الخسوف بأمر الواحد القهار، فكان آيةً جليلة ونذارةً مخيفة من الله تعالى للعباد، وقد نشرت الصحف وقوعه، فقلّ المعتبرون، وقلّ التائبون، وقلّ المصلون، وكأن شيئا لم يكن! ولنا على هذه الآية عدة تنبيهات:

أولاً: ما حقيقة الكسوف؟ إن الكسوف آية من آيات الله عز وجل، يحدث بأمر الله ومشيئته، وهو عبارةٌ عن تغيرٍ واحتجابٍ لضوء أحد النَّيِّرين: الشمس أو القمر، يقال: كسفت الشمس إذا اسودت وذهب شعاعها.

ثبت في الصحيحين عن غير واحد من الصحابة أن النبي قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوّف الله بهما عباده، فإذا رأيتموها فصلوا أو ادعوا حتى يُكشف ما بكم)).

إن الصحف قد نشرت أمر هذا الكسوف وحدوثه عن بعض أهل الفلك، ولا يعارض ذلك الحكمة الشرعية من هذا الكسوف، فإنهم وإن ذكروا أسبابًا طبيعية لحدوثه لا يجوز لهم تغييب السبب الشرعي لهذا الخسوف وهو تخويف العباد، والله عز وجل هو الذي علمهم وأطلعهم على ذلك، ولا يضاد ذلك حكمته ومشيئته سبحانه وتعالى، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: "ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ [الزمر: 16]، وليس بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن تكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها". وقال سماحة المفتي العام: "ما قاله ابن دقيق العيد تحقيق جيد، وقد ذكر كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ما يوافق ذلك، وأن الله سبحانه قد أجرى العادة بخسوف الشمس والقمر لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب، والواقع شاهد بذلك، ولكن لا يلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون، بل قد يُخطِئون في حسابهم، فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا، والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير لمن يؤمن بالله واليوم الآخر".

معاشر المسلمين، إن هذا الحدث ـ أعني الخسوف ـ آية من آيات الله تعالى، يخوف به العباد، ليس بالأمر السهل الذي يتلقاه الناس بالدعة والراحة، إنه حدثٌ فظيع وخطْبٌ عظيم، ينذر الله تعالى به المخالفين، ويخوف العاصين الذين ضربوا في المعاصي والآثام، وأعرضوا عن طاعة الله وذكره.

إن استقبال الكسوف لا يكون بضرب الطبول ولا بعزف القيان، ولا نشره على أنه ظاهرةٌ كونية فحسب، ولا يستقبل بسعة البال وطول الرُّقاد، إنما يستقبل بالتوبة إلى الله عز وجل والإقلاع عما قد يوجب غضبه وعقابه، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله حمدا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله، ما أقبح أن يخاطبنا الله ويدعونا إلى عبادته وذكره واستغفاره ونظن أن ذلك ليس لنا بل لغيرنا! هل آية الكسوف للكفار يا أيها الذين آمنوا؟! هل الله عز وجل يدعو سوانا أو يدعو أمة أخرى؟! عجبًا لفئامٍ يظنون أن النداءات والأوامر الشرعية ليست لهم!

إن واجبنا ـ أيها المسلمون ـ تجاه الكسوف أن نقوم ونفزع إلى الصلاة والذكر والدعاء رجالاً ونساء، والنساء يخرجن بالشروط المعتبرة في حقهن. قال البخاري في صحيحه: "بابك صلاة النساء مع الرجال في الكسوف"، ثم روى بسنده إلى أسماء رضي الله عنها قالت: أتيت عائشة رضي الله عنها زوج النبي حين خسفت الشمس، فإذا الناس قيامٌ يصلون، وإذا هي قائمة تصلي. وإنما تشرع الصلاة للكسوف إذا رُئِي ذلك الضوء منكسفًا، وليس بتوقيت الصحف، أو ما يذكره أهل الفلك؛ لأنهم قد يصيبون ويخطئون.

وصفتها أنها ركعتان، في كل ركعة قيامان وركوعان، فيصبح فيها أربع ركوعات وأربع سجودات. وليس للكسوف أذان ولا إقامة، وإنما ينادى لها بلفظ: (الصلاةَ جماعةً). وإنما نبهت على هذه الأمور لوقوع الخطأ في ذلك من بعض المساجد، مما يدلنا دلاله واضحة على عظم الجهل المنتشر والغفلة المستطيرة، والله المستعان.

والمشروع للإمام أن يخطب خطبة للكسوف بعد الصلاة، يبين فيها أهمية الحدث ويحض المسلمين على الصلاة والذكر والدعاء والاستغفار والعتاقة. وقد استحب هذه الخطبة أكثر أهل الحديث، وهو المعتمد لثبوت الأدلة بذلك، وأن النبي خطب للكسوف خطبة عظيمةً بليغة، بيّن فيها ما ينبغي بيانه.

إخوة الإيمان، اتقوا لله تعالى حق التقوى، واعلموا أنه ما نزل بلاءٌ إلا بذنب، ولا رُفع إلا بتوبة، وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُم مِّنَ القُرَى وَصَرَّفْنَا الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الأحقاف: 27].

عباد الله، ما أكثر الإعراض والتقصير في هذه الأزمان من كثير من المسلمين، فكم بنا من نكبات وويلات، وتصيبنا رزايا وابتلاءات، ولا زلنا في غفلة معرضين، وبآيات الله غير معتبرين، وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76]. ثبت في صحيح البخاري عن أنس قال: (إنكم لتعملون أعمالاً هي أدق في أعينكم من الشعر، كنا نعدّها على عهد رسول الله من الموبقات).

استمعوا كيف كان استقبال النبي للكسوف: ثبت في صحيح البخاري من حديث أبي موسى الأشعري قال: خسفتِ الشمس، فقام النبي فزِعًا يجرُّ رداءَه يخشى أن تكون الساعة، فأتى المسجد فصلى بأطول قيامٍ وركوعٍ وسجودٍ ما رأيته قط يفعله... الحديث. سبحان الله! فأين أولئك الذين لم يكترثوا لأمر الخسوف ولم يحركوا لهذا الحدث ساكنًا ولم يقيموا له وزنًا بل عدُّوه آيةً متوقعة حدثًا كونيًا لا يُستغرب وقوعه، فقضَوا وَطَرَهم على نغمة ووتر، وأكلوا كما يأكل الأنعام، وباتوا بشرِّ منام؟!

عباد الله، إن هذه الآية العظيمة إنذار لنا وتخويف؛ لكي نتوب إلى الله تعالى ونرجع ونقلع عما نحن فيه من معصية وتقصير. إن هذه الآية رادع لنا عما نحن فيه من إعراض وتفريط. إن هذه الآية باعث قوي للمحاسبة والتصحيح وإقامة فرائضه واجتناب حدوده ونواهيه.

أيها المسلمون، إن حكمة الله جل وعلا أن يبتلي الأمم والشعوب بشتى الوسائل والسبل لكي يتوبوا ويتعظوا وينزجروا، أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ [التوبة: 126]. وكم هو مؤسف أن يحصل الكسوف وأمارات العذاب والبلاء ونحن في غفلة معرضون وفي ملذاتنا غارقون، وإنها لمصيبة عظمى أن تُرفع رايات الباطل ويدُعى إلى منتديات الفساد فتجيبها جموع غفيرة! في حين يدعو داعي الخير والهدى والجنة ولا يجيبه إلا القليل، وأقبح من ذلك أن تأتي النذارة والتخويف من الله تعالى ولا يبالي كثير من الناس بها! حتى المتخلفون عن الصلوات في المساجد والعياذ بالله ما أهمهم أمر الكسوف، ولا أخافهم ولا أرعبهم من المعاصي، كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين: 14]. إنما طبع على قلوبهم وأعمى أبصارهم كسبُهم من المعاصي والآثام وبقاؤهم على الخطايا والأوزار، فتخلف عن الصلاة، وأكل للمحرمات، وإعراض عن الآيات، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ [ق: 37].

 

محامد و أدعية طباعة الخطبة بدون محامد وأدعية 

إلى أعلى

إذا كانت لديك أية ملاحظات حول هذه الخطبة، إضغط هنا لإرسالها لنا.

كما نرجو كتابة رقم هذه الخطبة مع رسالتك ليتسنى لنا التدقيق وتصويب الأخطاء

 
 

 2004© مؤسسة المنبر الخيرية للمواقع الدعوية على شبكة الإنترنت، جميع الحقوق محفوظة

عدد الزوار حالياً