أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
أيها الناس، إن النفوس مجبولة على الخوف من المرهوب، ومجبولة على توقي المخاطر والأهوال، وإنه لمن الحمق بمكان أن يسعى الإنسان لإبادة نفسه بلا سبب أو يقوم بإحراق مزرعته أو إتلاف ماله بلا مسوِّغ محمود لذلك. تأمل ـ أخي رعاك الله ـ لو قيل لك وقد كنت في مبنى أو مجمع معين: وقع حريق مهول، ماذا يكون موقفك؟ وما أنت صانع؟ ستبقي أم تنجو بنفسك؟ وتخيل ـ رعاك الله ـ لو كنت سائرًا إلى مدينة ما ثم قيل لك: إن الطريق موحش ولا يحمد أبدا، ماذا ستصنع؟ هل ستكمل السفر أم تؤجّل الرحلة؟ وتخيّل ـ وفقك الله ـ لو أن رئيسك في العمل كان غليظًا شديدا نظاميًا صِرفا لا يقبل معاذير من جاء معتذرا وبدر منك ما يوجب العقاب على مذهبه، أي حالٍ تصير إليه؟! تقطيب في الوجه، وتنحية عن مهامٍ جليلة، وخصمٌ من مالك وراتبك، ومعاملة سيئة أبدا.
واعلم وتيقن ـ أخي ـ غاية الإيقان أن الله عز وجل يرسل الآيات تخويفًا للعباد، ويبعث النذر تحذيرًا للناس، ويخسف القمر إرهاصات غضب وابتلاء. فإن كنت سالفًا تهيئ نفسك للنجاة من الحريق وتُطفئ النار بالماء وتسلك الطريق النظامي الآمن وتُرضي رئيسك في العمل وتكسب وده ومحبته فَاللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ [التوبة: 13].
أيها المسلم الواعي، يُلحظ عليك أنك تبني دنياك بناءً شامخًا، فتشيد عمارتك، وتحسن منصبك، وتجمّل سيارتك، وتغذّي جسدك وأجساد أبنائك. وحسنٌ ذلك إذا سلكنا فيه الاعتدال ولم نتجاوز فيه الحدود. لكن قل لي بربك: هل بنيت دينك وإيمانك كما بنيت دنياك ومصالحك؟! هل أطفأت ظلمة المعصية بنور الطاعة والهداية؟! هل سعيت في إصلاح الطريق إلى الله عز وجل أم تركت فيه الأشواك والعراقيل التي تسيئك يوم الحساب؟! مَا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارا [نوح: 13، 14].
أيها المسلمون، لقد وقع الخسوف بأمر الواحد القهار، فكان آيةً جليلة ونذارةً مخيفة من الله تعالى للعباد، وقد نشرت الصحف وقوعه، فقلّ المعتبرون، وقلّ التائبون، وقلّ المصلون، وكأن شيئا لم يكن! ولنا على هذه الآية عدة تنبيهات:
أولاً: ما حقيقة الكسوف؟ إن الكسوف آية من آيات الله عز وجل، يحدث بأمر الله ومشيئته، وهو عبارةٌ عن تغيرٍ واحتجابٍ لضوء أحد النَّيِّرين: الشمس أو القمر، يقال: كسفت الشمس إذا اسودت وذهب شعاعها.
ثبت في الصحيحين عن غير واحد من الصحابة أن النبي قال: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما يخوّف الله بهما عباده، فإذا رأيتموها فصلوا أو ادعوا حتى يُكشف ما بكم)).
إن الصحف قد نشرت أمر هذا الكسوف وحدوثه عن بعض أهل الفلك، ولا يعارض ذلك الحكمة الشرعية من هذا الكسوف، فإنهم وإن ذكروا أسبابًا طبيعية لحدوثه لا يجوز لهم تغييب السبب الشرعي لهذا الخسوف وهو تخويف العباد، والله عز وجل هو الذي علمهم وأطلعهم على ذلك، ولا يضاد ذلك حكمته ومشيئته سبحانه وتعالى، فلله الأمر من قبل ومن بعد.
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله: "ربما يعتقد بعضهم أن الذي يذكره أهل الحساب ينافي قوله: يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ [الزمر: 16]، وليس بشيء؛ لأن لله أفعالاً على حسب العادة، وأفعالاً خارجة عن ذلك، وقدرته حاكمة على كل سبب، فله أن يقطع ما يشاء من الأسباب والمسببات بعضها عن بعض، وإذا ثبت ذلك فالعلماء بالله لقوة اعتقادهم في عموم قدرته على خرق العادة وأنه يفعل ما يشاء إذا وقع شيء غريب حدث عندهم الخوف لقوة ذلك الاعتقاد، وذلك لا يمنع أن تكون هناك أسباب تجري عليها العادة إلى أن يشاء الله خرقها". وقال سماحة المفتي العام: "ما قاله ابن دقيق العيد تحقيق جيد، وقد ذكر كثير من المحققين كشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ما يوافق ذلك، وأن الله سبحانه قد أجرى العادة بخسوف الشمس والقمر لأسباب معلومة يعقلها أهل الحساب، والواقع شاهد بذلك، ولكن لا يلزم من ذلك أن يصيب أهل الحساب في كل ما يقولون، بل قد يُخطِئون في حسابهم، فلا ينبغي أن يصدقوا ولا أن يكذبوا، والتخويف بذلك حاصل على كل تقدير لمن يؤمن بالله واليوم الآخر".
معاشر المسلمين، إن هذا الحدث ـ أعني الخسوف ـ آية من آيات الله تعالى، يخوف به العباد، ليس بالأمر السهل الذي يتلقاه الناس بالدعة والراحة، إنه حدثٌ فظيع وخطْبٌ عظيم، ينذر الله تعالى به المخالفين، ويخوف العاصين الذين ضربوا في المعاصي والآثام، وأعرضوا عن طاعة الله وذكره.
إن استقبال الكسوف لا يكون بضرب الطبول ولا بعزف القيان، ولا نشره على أنه ظاهرةٌ كونية فحسب، ولا يستقبل بسعة البال وطول الرُّقاد، إنما يستقبل بالتوبة إلى الله عز وجل والإقلاع عما قد يوجب غضبه وعقابه، رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ [الأعراف: 23].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|