أما بعد: لقد بعث الله تعالى رسوله على حين فترة من الرسل، فشرح به الصدور، وأنار به القلوب، وهدى به من الضلالة، وجمع به من الشتات، ووحّد به من الفرقة، فكانت بعثته عليه الصلاة والسلام حياة ورحمة وهداية للخلق أجمعين، وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107].
وكان منارة الحق والنور والضياء، أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور، وهداهم إلى الصراط المستقيم، وأبان لهم سبل النجاة وسبل الهلاك ومن يردها من المؤمنين والكافرين، قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ [المائدة: 15]، وقال تعالى: وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا [الأحزاب: 46].
وكانت دعوته كدعوات من سبقه من الأنبياء والمرسلين؛ متفقة في أصل الدعوة وأساسها، اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف: 59]، وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء: 25].
وأيده ربه سبحانه وتعالى بالآيات البينات والبراهين الواضحات، لكي يدحض شبه المجرمين، ويبطل حيل الكافرين والمبطلين، بل كانت جميع أحواله عليه الصلاة والسلام من أعلام نبوته وصدقه وجلالته وكماله.
فسيرته وأخلاقه وأقواله وأفعاله من آياته، وشريعته من آياته، وأمته من آياته، ودينهم من آياته، وكرامات صالحي أمته من آياته، وذلك يظهر بتدبر سيرته من حيث ولد وبعث إلى أن مات واختار الرفيق الأعلى عليه الصلاة والسلام.
فإنه كان من أشرف أهل الأرض نسبًا، من صميم سلالة إبراهيم عليه السلام الذي جعل الله في ذريته النبوة والكتاب، وكان من أكمل الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفًا بالصدق والبر ومكارم الأخلاق والعدل، وترك الفواحش والظلم وكل وصف مذموم، مشهود له بذلك عند جميع من يعرفه قبل النبوة، ومن آمن به ومن كفر بعد النبوة، ولا يعرف له شيء يُعاب به في أقواله ولا أفعاله ولا في أخلاقه.
وقد كان خَلقه وصورته من أحسن الصور وأتمها، وأجمعها للمحاسن الدالة على كماله، وكان أميًا من قوم أميين، لا يعرف هو ولا هم ما يعرفه أهل الكتاب من التوراة والإنجيل، ولم يقرأ شيئًا من علوم الناس، ولا جالس أهلها، ولم يدَّعِ نبوةً إلى أن أكمل الله له أربعين سنة، فأتى بأمر هو أعجب الأمور وأعظمها، وبكلام لم يسمع الأولون والآخرون بنظيره، وأخبر بأمر لم يكن في بلده وقومه من يعرف مثله.
ثم اتبعه أتباع الأنبياء وهم ضعفاء الناس، وكذبه أهل الرياسة وعاندوه، وسعوا في هلاكه وهلاك أتباعه بكل طريق، كما كان الكفار يفعلون بالأنبياء وأتباعهم، والذين اتبعوه لم يتبعوه لرغبة ولا لرهبة فإنه لم يكن عنده مال يعطيهم، ولا جهات يوليهم إياها، ولا كان له سيف، بل كان السيف والجاه والمال مع أعدائه.
وقد آذوا أتباعه بأنواع الأذى وهم صابرون محتسبون، لا يرتدون عن دينهم؛ لما خالط قلوبهم من حلاوة الإيمان والمعرفة.
وكانت مكة يحجها العرب من عهد إبراهيم عليه السلام، فتجتمع في الموسم قبائل العرب، فيخرج إليهم سيدنا محمد يبلغهم الرسالة، ويدعوهم إلى الله صابرًا محتسبًا على ما يلقاه من تكذيب المكذب وجفاء الجافي وإعراض المعرض، إلى أن اجتمع بأهل يثرب، وكانوا جيران اليهود وقد سمعوا أخباره منهم وعرفوه.
فلما دعاهم علموا أنه النبي المنتظر، والذي أخبرهم به اليهود ويهددونهم به، وكانوا سمعوا من أخباره أيضًا ما عرفوا به مكانته، فإن أمره كان قد انتشر وظهر في بضع عشرة سنة، فآمنوا به وبايعوه على هجرته وهجرة أصحابه إلى بلدهم، وعلى الجهاد معه، فهاجر هو ومن اتبعه إلى المدينة وبها المهاجرون والأنصار، ليس فيهم من آمن برغبة دنيوية ولا برهبة إلا قليلاً من الأنصار ثم حسن إسلام بعضهم.
ثم أُذن له في الجهاد، ثم أمر به، ولم يزل قائمًا بأمر الله تعالى على أكمل طريقة وأتمها من الصدق والعدل والوفاء، لا يحفظ له كذبة واحدة، ولا ظلم لأحد، ولا غدر لأحد.
بل كان أصدق الناس وأعدلهم وأوفاهم بالعهد، مع اختلاف الأحوال من حرب وسلم وأمن وخوف وقدرة وعجز وتمكن وضعف وقلة وكثرة وظهور على العدو تارة وظهور العدو تارة، وهو على ذلك كله لازم لأكمل الطرق وأتمها.
حتى ظهرت الدعوة في جميع أرض العرب التي كانت مملوءة بعبادة الأوثان، ومن أخبار الكهان وطاعة المخلوق في الكفر بالخالق، وسفك الدماء المحرمة، وقطعية الأرحام، لا يعرفون آخرة ولا معادا، فصاروا بعد إيمانهم بدعوة رسول الله أعلم أهل الأرض وأدينهم وأعدلهم وأفضلهم، حتى إن النصارى لما رأوهم حين قدموا الشام قالوا: "ما كان الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء". وهذه آثار علمهم وعملهم في الأرض وآثار غيرهم، تعرف العقلاء الفرق ما بين الأمرين.
وهو مع ظهور أمرة وطاعة الخلق له وتقديمهم له على الأنفس والأموال مات ولم يخلّف درهمًا ولا دينارًا ولا شاة ولا بعيرًا، إلا بغلته وسلاحه، ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقا من شعير ابتاعها لأهله، وكان بيده عقار ينفق منه على أهله، والباقي يصرفه في مصالح المسلمين، فحكم بأنه لا يورث ولا يأخذ ورثته شيئًا من ذلك.
وهو في كل وقت وحين يُظهر عجائب الآيات وفنون الكرامات ما يطول وصفه، ويخبرهم بما كان وما يكون، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث، حتى أكمل الله دينه الذي بعثه به وجاءت شريعته أكمل شريعة.
لم يبق معروف تعرف العقول أنه معروف إلا أمر به، ولا منكر تعرف العقول أنه منكر إلا نهى عنه، وجمع محاسن ما عليه الأمم.
وكانت أمته أكمل الأمم في كلّ فضيلة؛ علمًا وعملاً ودينًا ونبلاً وخلقًا وشجاعة وكرمًا وجهادًا، وكل مكرمة حازوها فإنما كانت بسببه ، ومنه تعلموها وأخذوها.
فجزاه الله عنا وعن المسلمين خير ما جزى نبيًا عن أمته ورسولاً عن أتباعه، اللهم اجزه خير الجزاء، وبلغه الوسيلة في دار البقاء، واجمعنا به وسائر المسلمين في جنات النعيم، قال تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا ذَلِكَ الفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء: 69-70].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم...
|