أمَّا بعدُ: فَأُوصِيكُم ـ أيُّها النَّاسُ ـ بِتَقْوَى اللهِ وَبِشُكرِهِ وَذِكْرِهِ، فَبِالتَّقْوَى تُنَالُ الدَّرَجَاتُ وَتَزْكُو الأَعْمالُ، وَبِذِكْرِهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ، وَبِشُكْرِهِ تُقَيَّدُ النِّعَمُ عَنِ التَّحَوُّلِ وَالانْتِقَالِ، فَاذْكُرُوهُ واشْكُرُوهُ كَمَا هُوَ أَهلٌ لِذَلِكَ.
عِبادَ اللهِ، مِنْ حِكْمَةِ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ لاَ يُدِيمُ لِعِبَادِهِ حَالَةً وَاحِدَةً، بَلْ يَبْلُوهمْ بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ وَبِالشَّرِّ وَالخَيرِ فِتنَةً، وَإِنَّ لَهمْ فِي ذَلِكَ لأَعْظَمَ فَائِدَةٍ، فَإِذَا شَبِعُوا شَكَرُوهُ، وَإِذَا جَاعَوا ذَكَرُوهُ، فهُم لَه حَامِدُونَ وَلِفَضْلِهِ قَاصِدُونَ، قُلُوبُهم إِليهِ مُتَّجِهَةٌ، وَوُجُوهُهُمْ لَهُ سَاجِدَةٌ، يَتُوبُونَ مِنْ كُلِّ مَعْصِيَةٍ صَادِرَةٍ منهم، وَيَسْأَلُونَهُ مِنْ كُلِّ خَيرٍ ونَعْمَةٍ لَهم.
رَوَى الإِمَامُ أحَمدُ مِنْ حَدِيثِ أَبي رزين عَنِ النَّبِيِّ أنَّهُ قَالَ: ((ضَحِكَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ وُقُرْبِ غِيَرِهِ))، فَقَالَ أبُو رزينٍ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَوَيَضْحَكُ الرَبُّ عَزَّ وَجَلَّ العَظِيمُ؟! لَنْ نَعْدِمَ مِن رَبٍّ يَضْحَكُ خَيرًا، قَالَ: ((نَعمْ، لَنْ نَعْدِمَ مِن رَبٍّ يَضْحَكُ خَيرًا)). وَمَعْنى ذَلِكَ أَنَّ اللهَ سْبَحَانَهُ يَضْحَكُ مِنْ قُنُوطِ عِبَادِهِ عِنْدَ احْتِبَاسِ المَطَرِ عَنهُمْ وَقُنُوطِهمْ وَيَأسِهمْ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقَدِ اقتَرَبَ وَقتُ فَرجِهِ وَرَحْمَتِهِ لِعِبَادِهِ؛ بِإنْزَالِ الغَيثِ عَلَيهمْ وَتَغْييرِ حَالهمْ وَهُمْ لاَ يَشْعُرونَ، فَعِندَ تَنَاهِي الكُروبِ يَكُونُ الفَرَجُ.
وَإِنَّ مِمَّا يَسْتَوجِبُ الشُّكْرَ وَالثَّنَاءَ لِصَاحِبِ المِنَنِ المُتَوالِية اللهِ سُبحَانَهُ وَتَعَالَى نُزُولَ الغَيثِ المُبَاركِ، يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ [الشورى: 28]. وَمِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ البَالِغَةِ أَنْ يُنَزِّلَ الغَيثَ بِقَدرِ الحَاجَةِ، حَتَّى إِذَا أَخذَتِ الأرْضُ حَاجَتَها مِنهُ وَكَانَ تَتَابُعهُ عَليهَا يَضَرُّهَا أَقلَعَ وَأتْبَعَهُ بالصَّحْوِ، فَهُمَا ـ أَعْنِي الصَّحْوَ وَالغَيمَ ـ يَتَعَاقَبَانِ عَلَى العَالَمِ لِمَا فِيه صَلاَحُهُ، وَلَو دَامَ أَحَدُهمَا كَانَ فِيه فَسادُهُ، وانْظُروُا كَلاَم ذَلكَ الرَّجُلِ الَّذِي دَخَلَ ورَسُولُ الله يَخْطبُ يَومَ الجُمُعَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأَرْضُ وَهَلَكَتِ المَاشِيَةُ فَادْعُ اللهَ يُغِيثُنَا، فَدَعَا رَسُولَ اللهِ فَنَزَلَ المَطَرُ، حَتَّى مَا رَأَوا الشَّمْسَ أَسْبُوعًا كَامِلاً، فَدَخَلَ ذَلِكَ الرُّجُل مِنَ الجُمُعَةِ القَابِلَةِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، هَلَكَتِ الأرْضُ وَهَلَكَتِ المَاشِيَةُ فَادْعُ اللهَ يُمْسِكُهُ عَنَّا، فَقَالَ : ((اللَّهمَّ حَوَالَينَا وَلاَ عَلَينَا...)) الحَدِيثُ.
أيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ المَطَرَ إِذَا جَاءَ أَكْسَبَ الأرْضَ نضْرَةً وَجَمَالاً، يُؤثِرُ النَّاسُ فِي تِلْكَ الأوْقَاتِ الخُرُوجَ إِلى البَرَارِي وَالتَّنَزُّهَ فِي الصَّحَارِي، وَتِلْكَ مِنْ نِعْمَةِ اللهِ وَتَيسِيرِهِ لِعِبَادِه، وَمَهْمَا يَكُنْ مِنْ أمْرٍ فَإِنَّ الخُرُوجَ إِلى البَرِّيَّةِ وَالنُّزْهَةَ فِيهَا لَهُ أَحْكَامٌ شَرعِيَّةٌ وَآدَابٌ مَرْعيَّةٌ، يَنْبَغِي للنَّاسِ أَنْ يُراعُوهَا، ذَلِكُمْ أَنَّ دِينَ الإِسلاَمِ دِينٌ كَامِلٌ لاَ نَقْصَ فِيهِ، لَم يَتْرُكْ شَارِدَةً وَلاَ وَارِدَةً إِلاَّ ذَكَرَ فِيهَا عِلْمًا وَخَبرًا، وَمِنْ تَلكمْ خُرُوجُ المَرْءِ مِنْ بَيتِهِ للنُّزْهَةِ فِي الصَّحْرَاءِ، زيَادَةً عَلَى أَنَّ مِنْ أُصُولِ الإِيمَانِ الَّتِي لاَ تَقْبَلُ المُنَازَعَةَ أَنْ يُقِرَّ المْؤمِنُ بِكَمَالِ هَذَا الدِّينِ واتسَاعِهِ لِكُلِّ صَغِيرٍ وَحَقِير، كَمَا وَسِعَ كُلّ كَبِيرٍ وَجَلِيلٍ.
فَتَعَالَوا مَعَنَا كَي نَخْرُجَ مِنْ صَخَبِ المُدنِ وَضِيقِ البُيُوتِ، لِنَخْرُجَ فِي رِحْلَةٍ خَلَوِيَّةٍ نَزْدَادُ فِيهَا عِلْمًا وَعَمْلاً وَتَزيدُنَا مِنَ اللهِ قُربًا، مُفَصَّلَة فِيهَا الأحْكَامُ، مُضَمَّنَة آيةً وَحَدِيثًا وَأَثرًا عَنْ سَلَفٍ.
أَيُّهَا النَّاسُ، أَلاَ مَا أَكَثرَ مَا يتْرُكُ النَّاسُ بْيُوتَهمْ العَامِرَةَ بهم وَمَنَازِلهم الكَانَّةُ لَهم عَنِ البَرْدِ والحَرِّ، لِيَذْهَبُوا إِلَى مُروجٍ وَأزْهَارٍ كَيمَا يَسْتَنْشقُوا هَواءً عَلِيلاً، وَيُمَتِّعُوا أَبْصَارَهمْ بِخضْرَةٍ وَنضْرةٍ وَجَمَالٍ، وَمَهْمَا يَكنِ السَّبَبُ فَإِنَّ النَّتيجةَ وَاحِدةٌ، وَهِيَ مُغَادَرَةُ البُنيَانِ ليَعيشَ المَرءُ بَينَ الجِبالِ والأشَجارِ. ألاَ فَلْتَعْلَمُوا جَميِعًا أَنَّ أَوَّلَ مَا يَجبُ عَلَى الإنسَانِ هُوَ التَّفَكُّرُ فِي خَلقِ اللهِ وَمَا يَرَاهُ أمَامَهُ مِنْ صُنْعِ اللهِ العَظِيمِ، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران: 190، 191].
تَأمَّـلْ فِي رُبُـوعِ الأرْضِ وَانْظُـرْ إِلَى آثَارِ مَـا صَنعَ الْملِيـكُ
عيـونٌ مِـنْ لُجَيـنٍ شَاخِصَـاتٍ بِأحَدَاقٍ هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ
عَلَـى قُصُبِ الزَّبَرْجَدِ شَـاهِدَاتٍ بِـأَنَّ اللهَ لَيـسَ لَهُ شَرِيـكُ
نَعْمَ أيُّها النَّاسُ، البَعْرَةُ تَدُلُّ عَلَى البَعِيرِ، وَالأَثَرُ يَدُلُّ عَلَى المَسِيرِ، سَمَاءٌ ذَاتُ أَبْرَاجٍ وَأَرْضٌ ذَاتُ فِجَاجٍ وَنَجُومٌ تَزْهَرُ وَجِبَالٌ تَزْخَرُ أَفَلا يدُلُّ ذَلِكَ عَلَى وجُودِ المَلِكِ الخَلاَّقِ؟!
عِبادَ اللهِ، الطَّهَارَةُ هِيَ مِمَّا يَتَسَاهَلُ فِيهِ النَّاسُ حالَ ابْتِعَادِهمْ عنِ البُنْيَانِ، وَلاَ يَجُوز للِمَرْءِ أنْ يَعْدِلَ إِلى التَّيمُّمِ مَعَ وُجَودِ المَاءِ.
وَإِنَّ لِلخَلاَءِ آدَابًا وَأَحكَامًا تَظْهَرُ بِوُضُوحٍ فِي الصَّحْرَاءِ وَالبَرِّيَّةِ، فإِذَا أَرَادَ المرءُ أَنْ يَقْضِيَ حَاجَتَهُ فَإنَّ عَلَيهِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَنْ أَنْظَارِ النَّاسِ، فَقَدْ كَانَ إِذَا أَرَادَ البرَازَ انْطَلَقَ حَتَّى لاَ يَراهُ أَحدٌ. رَوَاهُ أبُو دَاوُدَ وابْنُ مَاجَه بسندٍ صحيحٍ. وَعَنْد أبِي يَعْلَى: وُرُبَّمَا كَانَ يَبْعُدُ نَحْوَ المِيلَينِ.
وَعَلَيه أَنْ يَبْحَثَ عَنْ مَكَانٍ رِخْوٍ لاَ تَتَطَايرُ النَّجَاسَةُ عَلَيهِ، وَعَلَيهِ أَنْ يَتَجَنَّب الموَاضِعَ الَّتِي نُهِيَ عَنْ قَضَاءِ الحَاجَةِ فِيهَا، يَقولُ : ((اتَّقُوا المَلاَعِنَ الثَّلاَثَةَ: البرَازُ فِي المَوَارِدِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ وَالظِّلِّ)) رَوَاهُ أَبُو دَاودَ وابنُ مَاجَه بسندٍ صَحَيحٍ.
وَإنَّ حاجَةَ المَرءِ إِلَى مَعْرِفَةِ طَريقَةِ الاسْتِجْمَارِ ماسَّةٌ، يَقولُ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ حِينَ قَالَ لَهُ المشرِكُونَ: لَقدْ رَأينَا صَاحِبَكُم يُعَلِّمُكُم كُلَّ شَيءٍ حَتَى الخَرَاءَةَ! فَقَالَ: نَعم، لَقَدْ نَهَانَا أنْ نَسْتَقْبِلَ القِبْلَةَ بِغَائِطٍ أو بَولٍ، أَو أَن نَسْتَنْجِيَ بِاليَمِينِ، أو أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأقَلَّ مِنْ ثَلاَثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعِ دَابةٍ أَوْ عَظْمٍ. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
ويقولُ عمَّارُ بنُ يَاسِرٍ رضِي اللهُ عنهُ: بَعَثَنِي رَسُولُ اللهِ في حَاجَةٍ فَأَجَنَبْتُ فلَمْ أَجد ماءً، فَتَمَرَّغْتُ في الصَّعيدِ كما تَتَمَرَّغُ الدَّابَّةُ، ثُمَّ أَتَيتُ رسولَ اللهِ فَأَخْبَرْتُهُ، فقالَ: ((إنَّمَا يَكْفِيكَ أنْ تصْنَعَ بِيدَيكَ هَكَذَا)) وَضَربَ بِكَفَّيهِ الأرْضَ ثُمَّ مَسَحَ الشِّمَالَ عَلَى اليَمِينِ وَظَاهِرَ كَفَّيهِ وَوَجْهَه. رَوَاهُ مُسِلمٌ.
فَهَذِهِ صِفَةُ التَّيمُّمِ لِمَنْ لَمْ يَجدِ المَاءَ، غَيرَ أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ للمَرْءِ أَنْ يَلْجَأَ إِليهِ وَالمَاءُ عِندَهُ أَوْ قَرِيبٌ مِنهُ يَسْتَطِيعُ الحُصُولَ عَلَيهِ.
أمَّا الصَّلاةُ فَلَهَا أَحْكَامٌ تَبدَأُ مِنْ مُرَاعَاةِ المرءِ لِوقْتِ الدُّخُولِ وَالخُرُوجِ، مِنْ خِلاَل العَلاَمَاتِ الَّتِي أَوضَحَها اللهُ؛ وَهيَ طُلُوعُ الشَّمسِ وَارْتِفَاعُهَا ثُمَّ دُنُوُّها ثُمَّ مَغِيبُهَا ثُمَّ مَغِيبُ الشَّفَقِ، فَالفَجْرُ إِذَا ظَهَرَ النُّورُ، وَالظُّهرُ إِذَا مَالتِ الشَّمسُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ، وَالعَصْرُ إِذَا صَارَ الظِّلُّ مِثْلَهُ، وَالمغْرِبُ إِذا غَرَبَتِ الشَّمْسُ، وَالعِشَاءُ إِذَا غَابَ الشَّفَقُ.
الأَذَانُ مِنْ أَعْظَمِ شَعَائِرِ الدِّينِ، وَلَقدْ أوْصَى الرَّسُولُ بِهِ فِي الصَّحْرَاءِ، رَوَى البُخَارِيُّ أَن أَبَا سعيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قالَ لِرَجُلٍ: إنِّي أَرَاكَ تُحِبُّ الغَنَمَ والبَادِيَةَ، ((فإذا كُنْتَ في غَنَمِكَ وَبَادِيتِكَ فأَذَّنْتَ للصَّلاةِ فارْفَعْ صَوْتَكَ بالنَّداءِ؛ فإنَّهُ لا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِك المؤذِّنِ جِنٌّ ولا إنْسٌ ولا شَيءٌ إلا شَهِدَ يوْمَ القِيامَةِ)) قالَ أبُو سَعِيدٍ: سَمِعْتُه مِنْ رَسُولِ اللهِ .
وَرَوَى النَّسَائِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ يَقُولُ: ((يَعْجَبُ رَبُّكَ مِنْ رَاعِي غَنَمٍ فِي رَأسِ شَظِيَّةِ الجَبَلِ يُؤَذِّنُ بِالصَّلاَةِ وَيُصَلِّي، فَيِقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا لِعَبْدِي هَذَا؛ يُؤذِّنَ وَيُقِيمُ الصَّلاَةَ يَخَافُ مِنِّي، قَدْ غَفَرْتُ لِعَبْدِي وَأدْخَلْتُهُ الجَنَّةَ)). فَاللهَ اللهَ أنْ تَفُوتَكمْ هَذِهِ المَنْقَبَةُ الَّتِي خُصَّ بِهَا قَاصِدُ الصَّحَرَاءِ وَالبَرِّيَّةِ.
وَإِنَّ مِمَّا لاَ يَجُوزُ السُّكُوتُ عَنْهُ تَسَاهُلَ النَّاسِ حَالَ خُرُوجِهم إِلى الصَّحْرَاءِ فِي مَسْأَلَةِ قَصْرِ الصَّلاَةِ وَجَمْعِهَا، كَمَا أَنَّ مَنْ تَرخَّصَ بِأَحْكَامِ السَّفَرِ فَلاَ بدَّ أَنْ يَكُونَ مُنْطَبِقًا عَلَيهِ أَحكَامُهُ، فَلا بدَّ مِنْ مَسِيرَةِ يَومٍ وَلَيلَةٍ، وَلاَ بدَّ مِنَ النِّيَّةِ حَالَ القَصْرِ وَالجمْعِ.
أَلاَ وَإنَّ الفُرَصَةَ سَانِحَةٌ للمَرءِ إِذَا خَرَجَ للصَّحَراءِ أَنْ يُطَبِّقَ بَعْضَ السُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ فِي صَلاَتِهِ، وَالَّتِي كَانَ يَمْنَعُه مِنْ أَدَائِهَا كَونُهُ فِي المُدُنِ وَالعمْرَانِ، وَمِنْ ذَلِكَ الصَّلاَةُ فِي النِّعَالِ، فَقد كَانَ يُصلِّي فِي نِعَالِهِ، وَلَولا مَا فِي المَسَاجِدِ مِنْ فُرُشٍ لَطبِّقَتْ هَذِهِ السُّنَةُ، فَلاَ أَقَلَّ مِنْ أَنْ يُطَبِّقَها المَرْءُ فِي الصَّحراءِ وَالبَرِّيَّةِ.
أيُّها النَّاسُ، إنَّ مِمَّا لاَ يَجُوزُ للِنَّاسِ التَّهَاونُ فِيه مَسأَلةَ سَتْرِ العَورَاتِ، وتأَمَّلُوا قَولَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهَا وَهِيَ تَصِفُ مَسِيرَهم فِي السَّفَرِ إِلىَ الحَجِّ: كَانْت إِحْدَانَا تَضَعْ جِلبَابَهَا عَلَى وَجْهِهَا إذَا حَاذَانا الرُّكبَانُ، فَإذَا جَاوزونَا كَشَفْنَاهُ. رَوَاهُ أبو دَاودَ وَالأثَرمُ. وَمَا تَساهُلُ النَّاسِ بأَمْرِ النِّسَاءِ في الصَّحْراءَ وَالأَسْفَارِ إلاَّ صُورَةٌ مِنْ صُورِ بُعْدِهمْ عَنْ هَديِ النُّبُوَّةِ.
عِبادَ اللهِ، إِنَّ مَنْ خَرَجَ إلى الصَّحَراءِ وَالبَرِّيَّةِ فَإِنَّ عَلَيهِ أَنْ يَبْتَعِدَ عَمَّا نَهَى عَنهُ ، فَمِنْ ذَلِكَ أَنْ لاَ يَتَفَرَّقوا إذَا نَزَلُوا مَنْزِلاً، يَقُولُ أبُو ثَعْلَبةَ الخُشَنِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَانَ النَّاسُ إذَا نَزَلُوا مَنزِلاً تفَرَّقُوا في هذه الشِّعَابِ وَالأوْدِيَةِ، فقالَ رسُولُ اللهِ : ((إنَّ تَفرَّقَكُم في هَذهِ الشِّعَابِ وَالأوْدِيةِ إنَّما ذَلِكُم مِنَ الشَّيطانِ))، فلمْ يَنْزِلُوا بعدَ ذلكَ مَنزِلاً إلا انْضَمَّ بعْضُهُم إلى بَعْضٍ، حَتَّى يُقَالَ: لَو بُسِطَ عَليهمْ ثَوبٌ لَعَمَّهمْ. رَوَاهُ أبُو داوُدَ والنَّسَائيُّ بِسَندٍ صَحِيحٍ.
وَمِمَّا نُهيَ عنْهُ قَتْلُ حيواناتِ البرِّ منْ غيرِ سبَبٍ موجِبٍ للقتْلِ، رَوَى الإمامُ أحمدُ وأبُو داودَ وَالدَّارِمِيُّ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنُّه قَالَ: نَهى رَسُولُ اللهِ عَنْ قَتْلِ أرْبَعٍ مِنَ الدَّوَابِّ: النَّمْلَةُ وَالنَّحْلَةُ وَالهُدْهُدُ وَالصُّرَدُ. وَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللهِ بِرجُلِ وَقَدْ أحَرَقَ قَرَيةَ نَمْلٍ غَضِبَ عليه وَزَجَرَهُ.
وَمِمَّا عُنِيَ بِهِ الإسْلاَمُ وَنَهَى عَن قَطْعِهِ أَو إفْسَادِهِ الشَّجَرُ وَالنَّباتُ، فَهَذَا أبوبَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يأمُرُ الصَّحَابَةَ الغُزَاةَ حَالَ غَزْوِهم أَنْ لاَ يَقْطَعُوا شَجَرًا وَهمْ فِي حَالةِ حَربٍ، فَمَا الحَالَ الآنُ وَصُورُ إفْسَادِ زِينَةِ الأرْضِ بَادِيَةٌ عَلَيهَا؟!
أقولُ هذا القَولَ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ.
|