أما بعد: فقد سبق الحديث في الجمعة الماضية عن وجوب محبة النبي ، وأنه لا إيمان لمن قدَّم محبة غيره على محبته، وأنَّ الله أوجب علينا تعظيمه وتوقيره بقوله: إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً [الفتح: 8، 9].
وتعظيم النبي قسمان:
الأول: تعظيم مشروع لا مخالفة فيه؛ نحو ما كان يقوم به أصحابه رضي الله عنهم.
الثاني: تعظيم غير مشروع؛ كالغلو فيه. وإنَّ من ذلك أن يُحتفل بمولده .
وكنت في العام الماضي قد تناولت هذه القضية من أوجه عديدة، وأريد اليوم أن أطرقها من باب واحد، ألا وهو شبهات المحتفلين بهذا المولد؛ لتتبينَ خطأَ من يقيمه وعدم مشروعيته في ديننا الحنيف.
والذين يريدون التأصيل لهذه البدعة لهم نوعان من الشبهات، شبهات تختص بالمولد، وشبهات يؤصلون بها لكل بدعة، وإني أستعين بالله تعالى لدحر كلا النوعين قائلاً:
أما النوع الأول: فيستدلون بقوله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]. قالوا: احتفالنا بمولده من باب الفرح بفضل الله المندوب إليه.
والجواب ينبري له إمام التفسير القرطبي المالكي حيث يقول في الجامع (8/316): "فضل الله القرآن، ورحمته الإسلام... والفرح لذة في القلب بإدراك المحبوب... فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ أي: بالقرآن وبالإسلام فليفرحوا". فأين المولد هنا؟! وأين إقامة الاحتفالات؟! وإنما ذُكر الفرح، والاحتفالُ أمر زائد عليه.
ثم إنه لا يصح أن يستدل بآية على أمرٍ لم يجعلها السلف دليلاً عليه، فتركهم الاستدلال بها عليه إجماع على أنها لا تدل عليه. يقرر ذلك الإمام الشاطبي في الموافقات (3/71) ويعلّله بقوله: "إذ لو كان دليلاً عليه لم يعزب عن فهم الصحابة والتابعين ثم يفهمه هؤلاء". ثم قرَّر أن تركهم الاستدلال عليه إجماع على أن الآية لا تدل عليه.
الشبهة الثانية: استدلّوا بصوم النبي يوم عاشوراء بسبب أن الله نجَّى فيه موسى.
والجواب: ونحن نصومه لذلك، ونصوم يوم الاثنين كما كان النبيّ يصومه؛ شكرًا لله تعالى على مولد وبعثة نبينا ، فأين هذا من الاحتفال؟! وقد سئل النبي عن سبب صوم يوم الاثنين فقال: ((ذَاكَ يَوْمٌ وُلِدْتُ فِيهِ، وَيَوْمٌ بُعِثْتُ)) أَوْ: ((أُنْزِلَ عَلَيَّ فِيهِ)) رواه مسلم.
الشبهة الثالثة: قالوا: ثبت في سنن البيهقي أنَّ النبي عقَّ عن نفسِه، وهذا يدلّ لاحتفالنا بمولده.
والجواب من وجهين:
الوجه الأول: لو ثبت الحديث فلا يكون دليلاً على ذلك كما هو واضح.
الثاني: الحديث ليس بثابت، فالبيهقي الذي أخرجه أنكره؛ لأن في سنده عبد الله بنَ محرر، قال البيهقي في السنن (1/12): "عبد الله بن محرر متروك"، وقال (4/126): "قال البخاري: عبد الله بن محرر متروك"، وقال (9/299): "والحديث في عقيقة النبي عن نفسه منكر"، وقال (9/300): "قال عبد الرزاق: إنما تركوا عبد الله بن محرر لهذا الحديث". فماذا قال إمامنا الإمام مالك عن هذا الحديث؟ قال: "من الأباطيل"، وقال ابن حبان ـ وهو من المتساهلين في التوثيق ـ عن عبد الله بن محرر في كتاب المجروحين (2/29): "كان يكذب ولا يعلم، ويقلب الحديث ولا يفهم".
الشبهة الرابعة: استدلوا بهذه القصة: بعدما قال النبي : ((فَلا تَعْرِضْنَ عَلَيَّ بَنَاتِكُنَّ وَلا أَخَوَاتِكُنَّ))، قَالَ عُرْوَةُ: وثُوَيْبَةُ مَوْلاةٌ لأَبِي لَهَبٍ، كَانَ أَبُو لَهَبٍ أَعْتَقَهَا فَأَرْضَعَتْ النَّبِيَّ ، فَلَمَّا مَاتَ أَبُو لَهَبٍ أُرِيَهُ بَعْضُ أَهْلِهِ بِشَرِّ حِيبَةٍ، قَالَ لَهُ: مَاذَا لَقِيتَ؟ قَالَ أَبُو لَهَبٍ: لَمْ أَلْقَ بَعْدَكُمْ غَيْرَ أَنِّي سُقِيتُ فِي هَذِهِ بِعَتَاقَتِي ثُوَيْبَةَ. رواه البخاري. قالوا: فإذا سُقي أبو لهب لفرحِه بالنبيّ أفلا نحتفل به؟!
هذه الشبهة يردُّ عليها ابن حجر رحمه الله من أربعة أوجه، قال رحمه الله في فتح الباري (9/145): "مخالف لظاهر القرآن، قال الله تعالى: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [الفرقان:23]. وأجيب أولاً بأن الخبر مرسل، أرسله عروة ولم يذكر من حدثه بِه، وعلى تقدير أن يكون موصولاً فالذي في الخبر رؤيا منام فلا حجة فيه، ولعل الذي رآها لم يكن إذ ذاك أسلم بعد فلا يحتج به". فهذه أربعة أوجه، ويمكن أن تضيف إليها وجهين آخرين:
1- أنَّ الفرح بالأولاد فرح طبعي مباح، لا ثواب فيه ولا عقاب.
2- لو سُقي وسلّمنا بهذه الرؤيا ـ ولا نسلم ـ فإن سبب ذلك العتق، لا الفرح بالأبناء كما هو منصوص عليه.
الشبهة الخامسة: قالوا: إنما ترك النبي الاحتفال تواضعًا.
والجواب:
أولاً: لازم هذا القول نسبة الخيانة إلى النبي الذي قال الله له: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [المائدة: 67].
ثانيًا: أخبر النبي بأنه سيّد الناس يوم القيامة، وأن البخيل من ذُكر عنده ولم يُصل عليه، وغير ذلك، فلم لم يكتمه تواضعًا؟!
ثالثًا: فهل تركه الخلفاء الراشدون من بعده تواضعًا؟!
الشبهة السادسة: يستدل بعضهم بأنه رأى النبي في المنام وأمره بإقامة المولد.
والجواب: رأى حمزة الزيات النبيّ في المنام، فعرض عليه ما سمعه من أبان، فما عرف منه إلا شيئًا يسيرًا، قال القاضي عياض معلقًا كما في شرح النووي على مسلم (1/115): "هذا ومثله استئناس واستظهار على ما تقرر من ضعف أبان، لا أنه يقطع بأمر المنام، ولا أنه تبطل بسببه سنة ثبتت ولا تثبت به سنة لم تثبت، وهذا بإجماع العلماء". ولعلّي أُفرد جمعةً كاملة للحديث عن مصادر التلقي عند أهل البدع.
الشبهة السابعة: وأما استدلالهم بقول شيخ الإسلام في اقتضاء الصراط المستقيم (ص397): "وقد يعمل الرجل العمل الذي يعتقده صالحًا ولا يكون عالمًا أنه منهيّ عنه، فيثاب على حسن قصده، ويعفى عنه لعدم علمه، وهذا باب واسع" فهذا لا حجة لهم فيه، فحديثه عمن وقع في ذلك ولم يكن بالنهي عالمًا، هذا أولاً، وثانيًا: أقوال العلماء لا يُستدل بها وإنما يستأنس بها ويستدل لها، وإنما الحجة في قول الله ورسوله .
الشبهة الثامنة: قال به فلان وفلان.
وأقول: ولم يقل به فلان وفلان، وليست الحجة إلا في قول الله تعالى وقول رسوله ، وليس فيما ذهب إليه عمرو أو قال به زيد وبكر.
الشبهة التاسعة: لعل بعضهم يكابر قائلاً: الاحتفال عادة وليس عبادة.
والجواب: محاولاتهم للتأصيل بكل هذه الشبهات دليل على أن القوم يتخذون هذا الاحتفال عبادة، وهم يرجون باحتفالهم هذا الأجر من الله، فلا تعدو أن تكون هذه الشبهة مكابرة واضحة.
وأما الشبهات التي يؤصلون بها للبدعة عمومًا فمنها: استدلالهم بحديث جرير بن عبد الله البجلي، قال: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ فِي صَدْرِ النَّهَارِ، فَجَاءَهُ قَوْمٌ حُفَاةٌ عُرَاةٌ مُجْتَابِي النِّمَارِ أَوْ الْعَبَاءِ مُتَقَلِّدِي السُّيُوفِ، عَامَّتُهُمْ مِنْ مُضَرَ، بَلْ كُلُّهُمْ مِنْ مُضَرَ، فَتَمَعَّرَ وَجْهُ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا رَأَى بِهِمْ مِنْ الْفَاقَةِ، فَدَخَلَ ثُمَّ خَرَجَ فَأَمَرَ بِلالاً فَأَذَّنَ وَأَقَامَ، فَصَلَّى ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِلَى آخِرِ الآيَةِ: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1]، وَالآيَةَ الَّتِي فِي الْحَشْرِ: اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ [الحشر:18] ((تَصَدَّقَ رَجُلٌ مِنْ دِينَارِهِ، مِنْ دِرْهَمِهِ، مِنْ ثَوْبِهِ، مِنْ صَاعِ بُرِّهِ، مِنْ صَاعِ تَمْرِهِ)) حَتَّى قَالَ: ((وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ))، قَالَ: فَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ الأَنْصَارِ بِصُرَّةٍ كَادَتْ كَفُّهُ تَعْجِزُ عَنْهَا، بَلْ قَدْ عَجَزَتْ، قَالَ: ثُمَّ تَتَابَعَ النَّاسُ حَتَّى رَأَيْتُ كَوْمَيْنِ مِنْ طَعَامٍ وَثِيَابٍ، حَتَّى رَأَيْتُ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ يَتَهَلَّلُ كَأَنَّهُ مُذْهَبَةٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((مَنْ سَنَّ فِي الإِسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ، وَمَنْ سَنَّ فِي الإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً كَانَ عَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا مِنْ بَعْدِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ)) رواه مسلم.
قالوا: فهناك بدعة حسنة بنص الحديث. والجواب:
أولاً: سبب الورود قطعي الدخول في النص، وهو مما يفسّر به الحديث، فعُلم أنَّ المراد من الحديث من أقام سنةً واقتدى الناس به فيها فله أجرها وأجر من أقامها بسببه.
ثانيًا: كون الشيء حسنًا أو قبيحًا لا يُعلم إلا من جهة الشرع، فكيف يستدل به على البدع وقد جاءنا في الشرع ما يبين عظيم قبحها وأنها ضلالة؟!
الشبهة الثانية من الشبهات العامة: استدلالهم بأثر ابن مسعود : (ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسنٌ) رواه الحاكم والطبراني في الأوسط.
والأثر من أدلة حجية الإجماع، فما أجمع المسلمون على كونه حسنًا أو سيئًا فهو كذلك؛ لأن الإجماع حجة، فالمراد من قوله: (المسلمون) الاستغراق، وبذا قال ابن حزم في الإحكام وابن قدامة في روضة الناظر وابن القيم في الفروسية.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
|