أما بعد: فإن الله تعالى أوجب علينا محبة نبيه ، وتوعد المخالف في ذلك بقوله: قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ [التوبة: 24]. وكلُّ هذه المذكورات في الآية جُبِل المرء على محبتها، وليس المراد تحجير هذا أو ذمَّ من قام به، وإنما المراد من الآية ذمُّ من قدم حبها على حب الله ورسوله والجهاد في سبيله؛ فإنَّ حبها مركوز في نفوسنا.
ومن الأدلة القرآنية على وجوب تقديم حب النبي على كلِّ محبوب قول رب العالمين: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ [الأحزاب: 6]. يقول ابن القيم رحمه الله في روضة المحبين (1/276): "قال الله تعالى: النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ، ولا يتم لهم مقام الإيمان حتى يكون الرسول أحب إليهم من أنفسهم، فضلاً عن أبنائهم وآبائهم".
ودلت السنة النبوية على أنه لا إيمان لمن لم يقدم حبَّ رسول الله على كلِّ محبوب، فعن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : ((لا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)) رواه البخاري ومسلم واللفظ له. أتدري لِم مثَّل النبي بالوالد والولد؟ لأن الوالد لا يرى في الدنيا مثل ابنه، وهو يحب أن يرقى ابنه درجات قصر عنها، ولا يمكن أن يراوده هذا الشعور تجاه غيره، وقد سمعتم بأن أبوين آثرا ابنهما بطوق النجاة إثر غرق الباخرة المصريّة بعد حجِّ هذا العام، وأما حبّ الولد لوالده فلا يحتاج إلى تدليل، فلا يمكن أن يؤمن بالله ورسوله من قدم حبَّ ولده أو والده على حبه .
قال عبدُ اللَّهِ بْنُ هِشَامٍ : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ وَهُوَ آخِذٌ بِيَدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِلا مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((لا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْكَ مِنْ نَفْسِكَ))، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: فَإِنَّهُ الآنَ ـ وَاللهِ ـ لأَنْتَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((الآنَ يَا عُمَرُ)) رواه البخاري.
قال ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (11/528): "قال الخطابي: حبُّ الإنسان نفسَه طبع، وحب غيره اختيار بتوسّط الأسباب، وإنما أراد عليه الصلاة والسلام حب الاختيار، إذ لا سبيل إلى قلب الطباع وتغييرها عما جبلت عليه. قلت: فعلى هذا فجواب عمر أولاً كان بحسب الطبع، ثم تأمل فعرف بالاستدلال أن النبي أحب إليه من نفسه؛ لكونه السبب في نجاتها من المهلكات في الدنيا والأخرى، فأخبر بما اقتضاه الاختيار، ولذلك حصل الجواب بقوله: ((الآن يا عمر)) أي: الآن عرفت فنطقت بما يجب".
عباد الله، هذه المحبة لها أسباب تنمِّيها، ونحن مأمورون باتخاذها، فمن ذلك التأمل في أخلاقه التي امتدحها الله تعالى بقوله: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [القلم: 4]. ومنها أنَّ محبته تابعة لمحبة الله تعالى، فالله قد اتخذ نبينا خليلاً، والخُلَّة أعلى درجات المحبة، قال قَبْلَ أَنْ يَمُوتَ بِخَمْسٍ: ((إِنِّي أَبْرَأُ إِلَى اللَّهِ أَنْ يَكُونَ لِي مِنْكُمْ خَلِيلٌ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ اتَّخَذَنِي خَلِيلاً كَمَا اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً، وَلَوْ كُنْتُ مُتَّخِذًا مِنْ أُمَّتِي خَلِيلاً لاتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلاً)) رواه مسلم. ومنها قراءة سيرته؛ ولذا فإن من أقوى سبل دعوة الكافرين إيقافهم على سيرة النبي . ومنها قراءة خصائصه التي امتاز بها عن سائر الأنبياء.
أيها المؤمنون، الأدلة على صدق محبة النبي كثيرة، أجتزئ منها عشرةً:
الأول: نصرته في حياته ونصرة سنته بعد موته، أما نصرته حال حياته فهذا مما خصّ الله تعالى به أصحابه، وقد قاموا بما أوجبه الله تعالى عليهم من نصرة نبينا خير قيام، وهذا من أعظم ما يدل على صدق محبتهم للنبي ، وهل أدل على ذلك من فدائهم بأنفسهم للنبي ، وكثيرًا ما كان الرجل منهم إذا اشتد الوطيس يجعل من نفسه تِرسًا يحمي رسول الله .
الثاني: الحرص على صحبته، وهذا مما اختُص به الصحابة أيضًا، ولنا منها التمني، يقول الإمام النووي رحمه الله في شرح صحيح مسلم (2/16): "قال القاضي عياض رحمه الله: ومن محبته نصرة سنته، والذب عن شريعته، وتمني حضور حياته، فيبذل ماله ونفسه دونه".
الثالث: امتثال أمره، فلا يعقل أن تدّعي محبته ولا حظَّ لك من سنته وهديه وسمته، إن المحبة الحقيقية لا بد أن يتوّلد منها التأسي به ، المحبة الحقيقية يتبعها الاتباع لمنهجه وطريقه.
تعصي الإله وأنت تزعم حبه هذا مُحال في القياس بديع
لو كان حبك صادقًا لأطعته إن المحبَّ لِمن يُحب مطيع
الرابع: الحرص على تبليغ سنته والدعوة إليها؛ ولذا فإن الصادقين في حب نبيهم يفنون أعمارهم في الدعوة وتبصير الناس بها والتأليف دفاعًا عنها والرد على من يتجشم المهالك ويطعن فيها.
الخامس: عدم الرضا بالإساءة إليه، حدَّث ابْنُ عَبَّاسٍ أَنَّ أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَشْتُمُ النَّبِيَّ وَتَقَعُ فِيهِ، فَيَنْهَاهَا فَلا تَنْتَهِي وَيَزْجُرُهَا فَلا تَنْزَجِرُ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَتْ ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ وَتَشْتُمُهُ، فَأَخَذَ الْمِغْوَلَ فَوَضَعَهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأَ عَلَيْهَا فَقَتَلَهَا، فَوَقَعَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا طِفْلٌ فَلَطَّخَتْ مَا هُنَاكَ بِالدَّمِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ ذُكِرَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ ، فَجَمَعَ النَّاسَ فَقَالَ: ((أَنْشُدُ اللَّهَ رَجُلاً فَعَلَ مَا فَعَلَ لِي عَلَيْهِ حَقٌّ إِلا قَامَ))، فَقَامَ الأَعْمَى يَتَخَطَّى النَّاسَ وَهُوَ يَتَزَلْزَلُ حَتَّى قَعَدَ بَيْنَ يَدَيْ النَّبِيِّ ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَنَا صَاحِبُهَا، كَانَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَنْهَاهَا فَلا تَنْتَهِي، وَأَزْجُرُهَا فَلا تَنْزَجِرُ، وَلِي مِنْهَا ابْنَانِ مِثْلُ اللُّؤْلُؤَتَيْنِ، وَكَانَتْ بِي رَفِيقَةً، فَلَمَّا كَانَ الْبَارِحَةَ جَعَلَتْ تَشْتُمُكَ وَتَقَعُ فِيكَ، فَأَخَذْتُ الْمِغْوَلَ فَوَضَعْتُهُ فِي بَطْنِهَا وَاتَّكَأْتُ عَلَيْهَا حَتَّى قَتَلْتُهَا، فَقَالَ النَّبِيُّ : ((أَلا اشْهَدُوا أَنَّ دَمَهَا هَدَرٌ)) رواه أبو داود والنسائي.
السادس: كثرة الصلاة عليه، فعَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ إِذَا ذَهَبَ ثُلُثَا اللَّيْلِ قَامَ فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ، اذْكُرُوا اللَّهَ، اذْكُرُوا اللَّهَ، جَاءَتْ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ، جَاءَ الْمَوْتُ بِمَا فِيهِ))، قَالَ أُبَيٌّ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي أُكْثِرُ الصَّلاةَ عَلَيْكَ، فَكَمْ أَجْعَلُ لَكَ مِنْ صَلاتِي؟ فَقَالَ: ((مَا شِئْتَ))، قَالَ: قُلْتُ: الرُّبُعَ؟ قَالَ: ((مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ))، قُلْتُ: النِّصْفَ؟ قَالَ: ((مَا شِئْتَ فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ))، قَالَ: قُلْتُ: فَالثُّلُثَيْنِ؟ قَالَ: ((مَا شِئْتَ، فَإِنْ زِدْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ))، قُلْتُ: أَجْعَلُ لَكَ صَلاتِي كُلَّهَا؟ قَالَ: ((إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ)) رواه الترمذي.
السابع: مجانبة البدع؛ لأنها تضلّ عن طريق النبي وحوضه في الآخرة، ولا يمكن لمريد يعرف ذلك ويستمر عليها، كيف لمحب يعلم أن البدعة تفرّق بينه وبين رسول الله على حوضه فيقع فيها؟! فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ: ((السَّلامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنَّا قَدْ رَأَيْنَا إِخْوَانَنَا))، قَالُوا: أَوَلَسْنَا إِخْوَانَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! قَالَ: ((أَنْتُمْ أَصْحَابِي، وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ))، فَقَالُوا: كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ لَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِنْ أُمَّتِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟! فَقَالَ: ((أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ رَجُلاً لَهُ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ بَيْنَ ظَهْرَيْ خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟)) قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: ((فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، أَلا لَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلا هَلُمَّ، فَيُقَالُ: إِنَّهُمْ قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ، فَأَقُولُ: سُحْقًا سُحْقًا)) رواه البخاري ومسلم.
الثامن: محبة أصحابه وأهل بيته وإعمال وصيته فيهم، وليس من شكٍّ أنَّ الطعن فيهم والنيل منهم نيل وطعن في النبي ، فالمرء على دين خليله؛ ولذا فإنَّ العقل لا يمكن أن يتصوّر محبًا صادقًا للنبيّ قاليًا مبغضًا لأصحابه وآل بيته.
التاسع: التأدب معه.
العاشر: عدم الغلو فيه؛ لشدّة بغضه ذلك، فهل يعمل المحبُّ بما يُسخط حبيبَه؟! عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رَجُلاً قَالَ لِلنَّبِيِّ : مَا شَاءَ اللَّهُ وَشِئْتَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ : ((أَجَعَلْتَنِي وَاللَّهَ عدْلاً؟! بَلْ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَحْدَهُ)) رواه أحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم، ونفعنا بما فيه من آيات وذكر حكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
|