أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 70، 71].
إخوة الإسلام، عندما غابت شمس النبوات عن الكرةِ الأرضية اشتدّ الظلام وعظم الضلال وازداد الشر وانحرفت العقول وانطمست البصائر وبات الناس كما قال الباري تعالى: فِي ضَلالٍ مُبِينٍ [الأنعام: 74]؛ يعبدون أهواءهم، ويحتكمون لِشهواتهم، ويأكلون ضعيفهم، لا عدالة تقام، ولا عرض يصان، ولا تآلف يسود ويدوم. تصور أنك عائش في مجتمع يعظّم الأصنام وينتهك الحرمات ويتمدح بالمظالم وتغشاه الحروب والعداوات لأسباب تافهة، قد اجتاحته براثن الجاهلية، فألقته في مستنقع من الكبرياء والسفه والاعوجاج.
في هذا المجتمع تشحّ العقول الزكية، وعنه تختفي الفطر السليمة، فلا توحيد خالص، ولا استقامة صحيحة. وما إن يظهر الرجل المستقيم والعقل الزكي إلا وينال منه، ويُسخر به، ويتعجب له ومن منهاجه.
ومن هؤلاء الذين زكت عقولهم وأنكر سفاهة قومه زيد بن عمرو بن نُفيل، فكان لا يذبح للأنصاب ولا يأكل الميتة والدم، وطلب الدين الحق، ووُفِّق للحنيفيّة دين إبراهيم عليه السلام، وعصمه الله من عبادة الأوثان والأحجار وكان يقول:
أرَبًّا واحـدا أم ألـف ربٍّ أدينُ إذا تقسّمت الأمـورُ
عَزلتُ اللات والعزى جَميعا كذلك يفعل الْجلْدُ الصبورُ
ولـكنْ أعبد الرحمـن ربِي ليغفر ذنبِي الربُّ الغفـورُ
روى البخاري في صحيحه عن أبي رجاء العُطاردي وهو يصوِّر سخافة الوثنيّة التي كانت تعيشها الجاهلية قبل الإسلام ويقول: (كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجرًا هو أخيرَ ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجرا جمعنا جَثوةً من تراب، ثم جئنا بالشاة فبالت عليه، ثم طفنا به).
وهكذا فإن كل مجتمع كافر يخلو من نور النبوة مصيره إلى الضياع والهلاك، فلا يُستغرب تدينه بالباطل وتعلقه بالسفه وركضه وراء الشهوة وتخييم النكاد والتطاحن بين أهله وأفراده.
فكان العالم قبل الإسلام شقاء في شقاء ودمارًا في دمار، يحتاج إلى مصلح يضيء له نور السعادة، ويفتح له منافذ النجاة، فكان من رحمة الله تعالى أن شعّت من غار حراء نسمة مباركة، تجللت بالهدى والنور، وتحلت بالخير والسماحة، وكانت فاصلاً بين دهر غصّ بالشرور والموبقات ودهر مُلئ بالأفراح والمسرات.
وُلدت الحياة ميلادًا جديدًا من غار حراء الذي أعلن بزوغ النبوة وإشراقة خير الخلق ، فتنسمت الحياة، وأشرقت التلال واستنار الكون.
بشرى من الغيب ألقت فِي فم الغار وحيًـا وأفضت إلى الدنيا بأسرار
بشرى النبوة طافت كالشذا سحرًا وأعلنت فِي الربـا ميلاد أنـوار
فأقبل الفجرُ مـن خلف التلال وفي عينيـه أسرار عُشـاق وسُمـار
كأن فيـض السنـا في كل رابيـة موج وفي كل سفح جدول جاري
تدافـع الفجر في الدنيـا يزف إلَى تاريخهـا فجر أجيـال وأدهـار
واستقبل الفتـح طفلاً فِي تبسمـه آياتُ بشـرى وإيْمـاءات إنذار
وشبّ طفل الْهدى المنشـود متّزرا بالحقّ متَّشحًـا بالنـور والنـار
فِي كفه شعلـة تَهدي وفِي فمـهِ بشـرى وفي عينـه إصرارُ أقدارِ
وفِي ملامِحـه وعـد وفِي دمـه بطولـة تتحـدى كـلَّ جبـارِ
أيها المسلمون، كانت بعثة رسولنا رحمة بعد ظلماء، وجمعًا بعد شتات، وحياة بعد ممات، وفرجًا بعد كرب ومأساة. وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ [الأنبياء: 107]، وكانت منةً على أهل الإيمان، زكت نفوسهم، ورفعت أقدارهم، وأصلحت حياتهم وشؤونهم، لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران: 164].
أيها الإخوة الكرام، في هذا الشهر شهر ربيع الأول وُلد رسولنا ، فكان مفتاح الخيرات والبركات للبشرية جمعاء، وأيقن أهل الإيمان برسالته وبفضله وعظمته، وجعله الله تعالى حجة على العالمين وقدوة للناس أجمعين، يهتدون بهديه ويستنون بسنته.
فبلغ من حب بعض الناس له أن غلوا فيه، ووصفوه بما لا يليق، وأنزلوه منزلة الكريم الوهاب، فسألوه ودعَوه من دون الله بعد مماته، وصنعوا له ما لا يرضاه هو في حياته، ومن ذلك ما يُسمى بالمولد النبوي الذي أحدث في العصور المتأخرة، ومَا عرفة السلف ولا فعَله الأئمة المقتدى بهم، وإنما لجأ إليه بعض من قل فقهه وعلمه، فعظموا رسول الله ، فأحدثوا شيئًا منكرًا ليس له أصل في الدين. واعتبروا ذلك عيدًا يفرحون فيه، ويبتهجون برسول الله ، فينشدون القصائد الغالية والمدائح النبوية، وربما صاحب ذلك مناكر أخرى من اختلاط بالنساء وإحضار معازف ودعاء رسول الله وسؤال ما لا يجوز ولا يصح، فينقلب العيد البهيج إلى منكر قبيح ومدرسة تعلّم الشرك والغلو وتهتك الأخلاق والآداب.
وقد قال رسول الله كما في الصحيحين: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) أي: مردود لا يُعتدّ به. وهذا المولد المحدث لم يصنعه السلف الصالح الكرام، وهم أصدق الناس حبًا لرسول الله وأشدهم تعظيمًا، وقد بذلوا أموالهم وأنفسهم من أجله.
أيها الإخوة، لقد حَمى الله تعلى هذه البلاد المباركة من هذه البدعة المنكرة، فهيمنت عليها العقيدة السلفية، وحرستها الآثار النبوية، ولا يعرف أهلها شيئًا من ذلك. ولكن أحببنا التنبيه والتحذير لئلا يغتر أحد بسماع شيء من فتاوى الفضائيات المتساهلة أو البرامج التي لا تتردّد في نشر ذلك، فقد يغترّ بعض العوام بما يسمعه أو يراه؛ لأننا صرنا في عصر منفتح متصل بعضه ببعض، فوجب النصح والتنبيه.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب: 71].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|