أمّا بعد: أوصيكم ونفسي ـ أيّها المسلمون ـ بتقوى الله عزّ وجلّ، فاتقوه واعلموا أنكم ملاقوه، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
.
عباد الله، أذن الله عز وجل بتغيير وجه الأرض وتعديل خطّ التاريخ حينما أضاء بإذنه نور الهدى وسرَت إلى نواحي الكون البشرى بمولد الحبيب ، خرج إلى هذا الكون وخرج معه نور أضاءت له قصور الشام، في يوم مولده سقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى وخمدت النار التي يعبدها المجوس وانهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت. حُقّ للأرض أن تفرَحَ بمقدمه، وحقّ للزمان أن يفخر بمجيئه بعد أن غرق أهل الأرض في ظلمات الكفر والوثنية وظلمات الجهل والخرافة وظلمات الجبروت والتسلّط على الخلق، أشرق فجر جديد وتنفس صبح مجيد ليبعث الحرية من قبرها ويطلق العقول من أسرها وينقذ البشرية من جهلها. ولد سيد الخلق وأفضل الرسل وخاتم الأنبياء حبيب القلوب ، ولد الرحيم الرفيق بأمته، أطل على هذه الحياة صبيحة يوم الاثنين التاسع من ربيع الأول لعام الفيل، وقيل: الثاني عشر من ربيع الأول.
أيها المسلمون، كان مولد النبي وبعثته مولدا لنور الإسلام وضياء الحق المبين الذي تبدَّدت به ظلمات الشرك والكفر، وزال به الرّان الذي طُبع على قلوب كثير من الناس.
عباد الله، تشتاق النفوس إلى الحديث عن الحبيب ، وبذكره ترقّ وتلين القلوب، وتطمع النفوس المؤمنة إلى رؤيته والالتقاء به عند حوضه وفي الجنان.
نشأ حين نشأ يتيمًا، ولليتم مرارة وحرقة لا يعرفها إلا اليتيم، فكفله جدّه ثم كفله عمه، أرضعته حليمة السعدية في ديار بني سعد، نزلت الملائكة من السماء فشقت صدره وغسلت قلبه، فنشأ نشأة طهر وعفاف، اشتهر بين قومه بالصادق الأمين، لم يتجه يومًا بقلبه إلى صنم، ولم يعاقر خمرًا، ولم يتسابق كغيره إلى النساء، ولا عجب فقد أحاطته الرعاية الربانية والعناية الإلهية، وهيأ الله له الظروف مع صعوبتها، وحماه من الشدائد مع حدتها، وسخّر له القلوب مع كفرها وظلمتها.
ولما بلغ أشده وبلغ أربعين سنة هيأه ربه لأمر النبوة، وحمّله أمانة الرسالة، وكلّفه بالبلاغ والتحذير، لا لطائفة معينة أو مكان محدد، بل لجميع من في الأرض؛ العرب والعجم، الإنس والجن، إنها لحمل عظيم، كيف لرجل واحد أن يبلّغ هذا البلاغ ويصبر في سبيله على المشاق؟!
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ، كأنه قيل: إنّ الذي يعيش لنفسه قد يعيش مستريحًا، أما أنت الذي تحمل هذا العبءَ الكبير فما لك والنوم؟! وما لك والراحة؟! وما لك والفراش الدافئ والعيش الهادئ والمتاع المريح؟! قم للأمر العظيم الذي ينتظرك والعبء الثقيل المهيَّأ لك، قم للجهد والنصب والكد والتعب، قم فقد مضى وقت النوم والراحة، وما عاد منذ اليوم إلا السهر المتواصل والجهاد الطويل الشاقّ، قم فتهيأ لهذا الأمر واستعدّ.
إنها كلمة عظيمة رهيبة تنزعه من دفء الفراش في البيت الهادئ والحضن الدافئ لتدفع به في الخضم بين الزعازع والأنواء، وبين الشدّ والجذب في ضمائر الناس وفي واقع الحياة سواء.
وقام رسول الله فظل قائمًا بعدها أكثر من عشرين عامًا، لم يسترح ولم يسكن، ولم يعش لنفسه ولا لأهله. قام وظل قائمًا على دعوة الله، يحمل على عاتقه العبء الثقيل الباهظ ولا ينوء به، عبء الأمانة الكبرى في هذه الأرض، عبء البشرية كلها، عبء العقيدة كلها، وعبء الكفاح والجهاد في ميادين شتى، عاش في المعركة الدائبة المستمرّة أكثر من عشرين عامًا؛ لا يلهيه شأن عن شأن في خلال هذا الأمد منذ أن سمع النداء العلويّ الجليل، وتلقّى منه التكليف الرهيب، جزاه الله عنا وعن البشرية كلّها خير الجزاء.
ساومه قومه على ترك هذا الأمر وعرضوا عليه المال وأغروه بالجاه، فقال قولته المشهورة: ((والله، لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته))، ثم استعبر وبكى .
كم عانى عليه الصلاة والسلام ليبلغنا الرسالة، وكم صبر وهو يؤدّي الأمانة، فأخبرنا عن الرحمن وعلّمنا الإيمان ومهّد لنا طريق الجنان، فنحن نعظمه ونجله ونحبه، نحبه محبّة نقدمها على محبة المال والأهل والنفس والولد.
عباد الله، الصحابة البررة الأطهار يوم أعلنوا الحب للرسول قالوا: يا رسول الله، هذه أموالنا بين يديك فاحكم فيها بما شئت، وهذه نفوسنا بين يديك لو استعرضت بنا البحر لخضناه، نقاتل بين يديك ومن خلفك وعن يمينك وعن شمالك. إنه الحب الذي دعا صاحبه إلى أن يقول هذه الكلمات النيرات: (والله، ما أحب أن محمدا الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي). إنه الحب الذي ملك قلوب أولئك، المحبة ليست قصصا تروى، ولا كلمات تقال، ولا ترانيم تغنَّى، المحبة لا تكون دعوى باللسان، ولا هياما بالوجدان، وإنما هي طاعة لله ولرسول الله ، المحبة عمل بمنهاج الرسول ، تتجلى في السلوك والأفعال والأقوال، قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمْ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [آل عمران: 31]. وإنك لتعجب من أناس فرقوا بين النورين وخالفوا بين الأمرين، فهم يتذكرون ولادته وسيرته ولا ينسونها، وفي المقابل تجدهم تاركين لجملة من شريعته ومقصِّرين في اتباع هديه .
فحري بنا ـ عباد الله ـ أن تكون ذكرانا لمولد نبيِّنا كلَّ يوم، وأن تكون هذه الذكرى ذكرى لسيرته وشريعته، وأن يدفعنا ذلك إلى الاقتداء بسنته والاهتداء بهديه في سائر شؤون حياتنا، وصدق الله إذ يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا [الأحزاب: 21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين، واستغفروه إنه غفور رحيم.
|