أما بعد: من سالف العصور والأزمان إلى يوم الناس هذا والإنسانية تحلم بالجيل المثالي الذي يَودُّ البشر لو يَظفرون به فيتخذونه قدوةً لهم في السِّلم والحرب والمَنْشط والمكْره في مختلف أطوار الحياة، ليكون لهم من كماله الإمكاني المَثَل المقتدى به في كمالهم الإنساني.
الجيل المثالي أُمنيَّةٌ من أماني الشعوب والأُمم من أقدم الأزمان إلى الآن، تحدَّث عنها الحكماء، وتغنّى بها الشعراء، وترنم بها رَخيم أصوات الهاتفين، وهمس بها صفوةُ الضارعين والمناجين من كل صادِح ونحوه، بل إن (الجيل المثاليّ) هو الذي دعا إلى تكوينه وعمل على تحقيقه الأنبياءُ من أولى العَزْم، وهو الذي تمنَّاه العلماء، وهو الذي كانت الإنسانية ولا تزال تَرْنو إلى شَبَحه الُمرَجَّى في أحلام يَقَظاتها وفَتَرات غَفَواتها.
تَريَّثَ موسى عليه الصلاة والسلام بقومه في آفاق العريش وَبَريةِ سِيناءَ وصحاري النقب وحوالي بئر سَبْع أربعين حولاً يلتحف معهم سحائب السماء ويفترش أديم الغبراء، وهو يحاول أن يربي منهم جيلاً مثاليًا يستنُّ بسُنَن الله ويتخلق بأخلاق الرفق والحزم والتضحية والاستقامة والاعتدال، فيرضى بها عن ربه ويرضى ربه عنه، ثم مات ولما يبلغ من أمته هذه الأمنية.
ونبغ في الصين حكيمُها كونفوشيوس قبل ميلاد المسيح، وكان من أصدق الدعاة إلى أن يتعامل الناس بالمروءة، لكنه أخفق في كل ما قام به من دعوة أرجاء الصين، فعاد إلى بلده يؤلف الصحائف في الدعوة إلى المروءة، ثم مات وليس له من المتأثرين بدعوته إلا عدد قليل من تلاميذه، وبقيت الصين هي الصين من ذلك الحين إلى الآن.
وأعلن حكماء اليونان مذاهبهم في الحكمة وتهذيب النفس، فصنَّفوا في ذلك المصنفات، وألقَوا به الخطب، وقد اشتطُّوا في كثير مما صنفوا وخطبوا، وكتاب (الجمهورية) لأفلاطون من أبرز الأمثلة على هذا الشَّطط، ثم انقضى زمن حكماء اليونان وحِكمتِهم دون أن تعمل شُعوبهم بما دعوها إليه؛ لأن الدعوة والمدعُوِّين للعمل بها لم يكونا أهلاً لذلك.
وعالج المسيحُ في فلسطين عقول مواطنيه من العامة والخاصة، ممن كانوا يقصدون هيكلَ أورشليم أو يتسلَّقون جبل الزيتون أو يتردَّدون على شواطئ بحيرة طبَريَّا وحقول أرض الجَليل وحدائقها، فلم يستجب لدعوته إلاّ عدد ضَئيل لا يكاد يُسمّى جماعة، فضلاً عن أن يكون أمة.
إن الإنسانية ـ عباد الله ـ من أقدم أزمانها وفي مختلف أوطانها لم تشهد (الجيل المثالي) إلا مرة واحدة حين فوجئت بإقباله عليها من صحاري أرض العرب، يدعون إلى الحق والخير والرحمة، فكان ذلك مفاجأة عجيبة لكل من شهد هذا الحدث التاريخي الفذّ من روم وفُرس وآراميين وكنعانيين وعبريّين وغيرهم، وكانت المفاجأة عجيبة بمصدرها وكيفيتها وأطوارها، ثم كانت عجيبة العجائب بنتائجها التي لا تزال إلى اليوم من معجزات التاريخ. أين كان هؤلاء؟! وكيف تكوَّنوا على حين غفلة من الأمم؟! وما هذه الرسالة التي يحملونها؟! وكيف نجحت؟! وما هي وسائل نجاحها؟! سلسلةٌ من الأسئلة لا يكاد الناس يتساءلون بأولها حتى يفاجؤوا بما يُنسيهم تاليه أوله، إلى أن رأوا من صفات هذه الأمة المثالية ما أيقنوا به أنها تحمل إلى الإنسانية رسالة الحق والخير، وأنها تترجم عن رسالتها بأخلاقها وسيرتها وأعمالها، وأن الذي اعتقدته وتخلّقت به ودعت الأمم إليه هو الحق الذي قامت به السماوات والأرض.
وكما تساءل الناس عن هذه العجائب في زمن وقوعها ثم أنساهم بعضُها بعضًا كذلك نحن نتساءل اليوم عن كثير من أسرارها، وأول ما نعلمه ونؤمن به من أسباب الكمال في هذا الجيل المثالي جيل الصحابة رضي الله عنهم أنه تلقى تربيته على يد معلّم الناس خاتم رسل الله المبعوثِ بأكمل رسالات الله . إن هذا السبب في طليعة أسباب الكمال لذلك الجيل، لا يشك في ذلك عاقل فضلاً عن مؤمن، ولكن يحقّ لنا أن نتساءل: ألم يكن موسى أحد المبعوثين برسالات الله؟! ألم يُتَح لموسى أن يعاشِر قومه في الحِل والترحال معاشرة تربيةٍ ودعوة أكثر من أربعين سنة؟! ومع ذلك فحين أراد دخول الأرض المقدسة قالوا له: اذهب أنت وربك إنا ها هنا قاعدون.
أين أصحاب موسى هؤلاء من أصحاب محمد عليهما صلاة الله وسلامه يوم سار بهم محمّد إلى بدر وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً ليناجزوا ثلاثة أضعافهم من أهل الرجولة والحماسة والبأس من أهل مكة من صناديد العرب؟! فلما بلغ النبي بهذه القلة القليلة من أصحابه وادي ذفران أراد أن يختبر إيمانهم، فأخبرهم عن قريش، واستشارهم في الموقف، فقام أبو بكر فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب الذي أعز الله به الإسلام فقال وأحسن، ثم قام فارسهم المقداد بن عمرو (الأسود) الكندي فقال: يا رسول الله، امض لما أراك الله فنحن معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه، فقال له رسول الله : ((خيرًا))، ودعا له، ثم قال رسول الله : ((أشيروا عليّ أيها الناس))، فقال له سعد بن معاذ سيّد الخزرج وأقوى زعيم في الأنصار: والله، لكأنك تريدنا يا رسول الله، قال: ((أجل))، قال سعد: فقد آمنا بك وصدّقْناك، وشهدنا أنّ ما جئت به هو الحقُ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض ـ يا رسول الله ـ لما أردتَ، فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضتَه لخضناه معك، ما تخلف منّا رجل واحد، وما نكره أن تلقى عدونا غدًا، إنا لصُبُرٌ في الحرب صُدُقٌ في اللقاء، لعل الله يريك منا ما تَقرّ به عينك، فسِرْ بنا على بركة الله. وقد كان عملهم أبين من قولهم وأصدق رضي الله عنهم.
هكذا كانوا في مواقف البأس وعند الشدائد، ورأيناهم في تحرّيهم الحقوق وإذعانهم للإنصاف والعدل في حياتهم السلمية، كما تحدثت عنهم أم سلمة رضي الله عنها فيما رواه عنها الإمام أحمد في مسنده وأبو داود في سننه قالت: جاء رجلان يختصمان إلى رسول الله في مواريث قد دَرَست ليس بينهما بينة، فقال لهما رسول الله : ((إنكم تختصمون إليّ، وإنما أنا بشر، ولعل بعضكم ألحن بحجته من بعض، وإنما أقضى بينكم على نحو مما أسمع، فمن قضيتُ له من حق أخيه شيئًا فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له قطعة من النار يأتي بها إسطامًا ـ وهي القطعة من الحديد تحرّك بها النار وتُسعَّر ـ في عنقه يوم القيامة))، فبكى الرجلان، وقال كل واحد منهما: حقي لأخي، فقال لهما رسول الله : ((أما إذا قلتما ذلك فاذهبا، فاقتسِما ثم توَخيا الحقّ، ثم استهما ـ أي: اعملا قرعة على القسمين بعد قسمهما ـ، ثم ليُحلَّ كل واحد منكما صاحبه)).
وهذان الرجلان المثاليان في الإيمان بالحق لا نزال إلى الآن نجهل اسميهما؛ لأنهما من عامة الصحابة لا من خواصهم المتميزين بالفضائل الإنسانية النادرة المثال؛ كالعشرة المبشرين بالجنة وطبقتهم ممن اختصهم النبي بالمكانة والمناقب، وهذه الطريقة في تربية محمد لأصحابه على محبة الحق واستجابة أصحابه له فيما أَحَبّ أن يكونوا عليه قد أشاعت هذا الخلق في الخاصة والعامة من أبناء ذلك الجيل المثالي.
فلما كانت خلافة الصديق رضوان الله عليه ناطَ منصبَ القضاء برمز العدالة في الإنسانية وهو عمر بن الخطاب، فكانت تمرُّ على عمر الأشهر ولا يأتيه اثنان يتقاضيان عنده، وأي حاجةٍ بهذه الأمة المثالية إلى القضاءِ والمحاكمِ وهي أمةُ الحق؟! ومن أخلاقها أن تتحرى الحق بنفسها فلا تحتاج إلى تحكيم القضاء فيه، بل إن الطبقة الدنيا في هذا الجيل جيل الصحابة رضي الله عنهم أن يأتي من يقع في شيء من المعاصي والذنوب إلى رسول الله فيعترف له بزلته ويلح بلجاجة وإصرار على طلب إقامة الحد عليه ـ وفي ذلك حتفه ـ ليتطهر مما دنسه به الشيطان. وكان نبي الرحمة إذا رأى هذا الإيمان العجيب في هذه الطبقة من أصحابه الطيبين يحاول جهده أن يدرأ الحد عنهم بكل ما يجيزه الشرع، فيأبون إلا أن يتعجلوا عقوبة الدنيا ليتقوا عقوبة الآخرة.
وهذه الملاحظة عن هذه الطبقة بالذات ـ أعني طبقة صحابة الرسول ـ قد سبق إلى التنويه بها والتحدث عنها إمام كبير من أئمة أهل البيت من زيدية اليمن، وهو الإمام المنصور بالله عبد الله بن حمزة بن سليمان بن حمزة المتوفى ببلدة كوكبان باليمن سنة 614هـ، نقل ذلك عنه عالم الزيدية في القرن التاسع محمد بن إبراهيم بن علي المترضى الوزير (775هـ-840هـ) في كتابه "الروض الباسم"، فذكر تلك الطبقة وقال: "إن أكثرهم تساهلا في أمر الدين من يتجاسر على الإقدام على الكبائر، لا سيما معصية الزنا... لكنا نظرنا في حالهم فوجدناهم فعلوا ما لا يفعله من المتأخرين إلا أهل الورَع الشحيح والخوف العظيم ومن يُضرب بصلاحه المثل ويتقرّب بحبه إلى الله عز وجل، وذلك أنهم بذلوا أرواحهم في مرضاة رب العالمين، وليس يفعل ذلك إلا من يحق له منصب الإمامة في أهل التقوى واليقين".
وقد علق على كلام المنصور بالله علامة الزيدية محمد بن إبراهيم الوزير قائلاً يخاطب قارئَ كتابه: "فأخبرني على الإنصاف: مَن في زماننا وقبل زماننا من أهل الديانة سار إلى الموت نشيطًا وأتى إلى ولاة الأمر مُقِرًّا بذنبه مشتاقًا إلى لقاء ربه، باذلاً في رضا الله لِروحه، ممكّنًا للولاة أو القضاة في الحكم بقتله؟! وهذه الأشياء تنبه الغافل وتقوي بصيرة العاقل، وإلا ففي قول الله تعالى: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [آل عمران: 110] كفاية وغنية، مع ما عضدها من شهادة المصطفى عليه السلام بأنهم خير القرون، وبأن غيرهم لو أنفَق مثل أحدٍ ذهبًا ما بلغ مُدّ أحدهم ولا نصيفه، إلى أمثال ذلك من مناقبهم الشريفة ومراتبهم المنيفة" اهـ.
|