أما بعد: فقد ذهب جمهور العلماء إلى أن غزوة الأحزاب كان وقوعها في شوال سنة خمس من الهجرة، وهي حلقة من حلقات الصراع العسكري بين المسلمين والكفار؛ لأن الحرب بين المعسكرين معلنة ولا تهدأ ولن تقف أبدًا، وإن كان ثمة عواملُ مباشرةٌ أثارتها ودعت إليها جعلت قريش منها مبررًا للحرب، وهو أن طريق تجارة قريش من مكة إلى الشام باتت دائما مهددة من قبل المسلمين.
ولهذا وذاك فكرت قريش جديًا بالقضاء على المسلمين قضاءً مبرمًا ومطاردتِهم وملاحقةِ فلُولهم وتعقُبهم في كل مكان، لكن قريش رأت أنها وحدها قد لا تقوم بهذا الدور، فسعت جاهدة إلى إقامة تحالف مع غيرها لحرب المسلمين ظانةً أنها ستُطفئ نور الله، وجاءت الفرصة مواتية عندما أجلى الرسول يهود بني النضير من المدينة، وذلك الإجلاء إيذانٌ بأفول نجم اليهود ومحاصرةٌ لتحركاتهم وتجفيفٌ لموارد شرهم، وهو ما لا يرضاه اليهود؛ لذا ذهب عدد من زعمائهم وبدؤوا باتصالاتٍ مع قريش وقبائل أخرى للثأر لأنفسهم ومحاولة العودة إلى أرضهم وأموالهم في المدينة، وهذا ديدنهم عبر التاريخ حينما يُنبذون ويُطردون يعمدون إلى إيقاد نيران الحرب بالوكالة، فيُحرّكون أطرافًا أخرى بعد أن يفتعلوا بعض الحوادث المثيرة.
خرج وفدٌ من اليهود إلى مكة، فيهم سلام بن أبي الحقيق النضري وحُيي بن أخطب النضري، فدعوا قريشًا إلى حرب المسلمين، ووعدوهم أن يقاتلوا معهم، وشهدوا بأن الشرك خير من الإسلام، وقد نزل في ذلك قول الله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً [النساء: 51]. ثم خرجوا من مكة إلى نجد حيث حالفوا قبيلة غطَفَان على حرب المسلمين، وهكذا تمكن اليهود من تشكيل تحالف همه حرب المسلمين والقضاء عليهم. وتذكر بعض كتاب السير أن وفد اليهود المكلف بتأليب الأحزاب وعد غطفان بنصف ثمر خيبر لإغرائها بالمشاركة في التحالف نظرًا لأهمية دورها الذي ستضطلع به.
تجمع جيش قريش وحلفائها في مرِّ الظهران التي تبعد عن مكة أربعين كيلاً، حيث وافاهم حلفاؤهم من بني سليم وكنانة وأهل تهامة والأحابيش، ثم عزموا على المسير، وفور معرفة المسلمين بزحفهم صوب المدينة بدؤوا يتحركون لمواجهة الطوفان المحدق بهم، وبمشورة من سلمان الفارسي حفروا الخندق ليربط بين طرفي حرتين، لأنها كانت منطقة مكشوفة أمام الغزاة، وكان طول الخندق خمسة آلاف ذراع أي: بما يعادل كيلوين ونصف الكيلو، وعرضه أربعة أمتار ونصف، وعمقه يتراوح ما بين ثلاثة أمتار ونصف إلى خمسة أمتار، وكلف الرسول أن يحفر كل عشرة من المسلمين أربعين ذراعًا. وأما الجهات الأخرى فتضاريسها الصعبة شكلت حصنًا طبيعيًا يصعب على العدو اختراقه. وتم حفر الخندق بسرعة رغم الجو البارد والمجاعة التي أصابت المسلمين؛ فكان طعام الجيش قليلاً من الشعير يُخلط بدهن متغير الرائحة لِقدَمه ويطبخ فيأكلونه رغم طعمه الكريه ورائحته المنتنة لفرط الجوع، وأحيانًا لا يجدون سوى التمر، وقد يلبثون ثلاثة أيام لا يذوقون طعامًا، لكنها حرارة الإيمان تطغى على البرد والجوع، فأتموا حفر الخندق في ستة أيام فقط.
أيها المسلمون، ويبرز في هذه الغزوة موقف المنافقين أيضًا كشأنهم في كل شدة ونازلة تحل في ديار الإسلام، موقفهم المتسم بالجبن والإرجاف وتخذيل المؤمنين، وَرَدَ ذلك في القرآن الكريم بأفصح عبارة وأدق تفصيل، قال الحق جل وعز: وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا الآيات.
وظل زعيم اليهود حيي بن أخطب يواصل اتصالاته المكثفة لتعزيز قوة التحالف حتى أتى كعب بن أسد القرظي اليهودي، وكان بين بني قريظة والمسلمين عهد، فلم يزل به حيي بن أخطب حتى أعلن كعبٌ نقضه للعهد والانضمام إلى التحالف.
وبدأ الحصار، وعظُم البلاء على المسلمين، واشتد الخوف والبرد والجوع حتى ظن المؤمنون كل ظن. قال محمد بن مسلمة وغيره: كان ليلنا بالخندق نهارًا، وكان المشركون يتناوبون بينهم، فيغدو أبو سفيان بن حرب في أصحابه يومًا، ويغدو خالد بن الوليد يومًا، ويغدو عمرو بن العاص يومًا، ويغدو هبيرة بن أبي وهب يومًا، ويغدو عكرمة بن أبي جهل يومًا، ويغدو ضرار بن الخطاب يوما، حتى عظم البلاء وخاف الناس خوفًا شديدًا. هجومات تشن في كل وقت، وضربات موجعة متتالية، وحصار مضروبٌ عليهم، وتوهين المنافين وتخذيلهم، وبثُّ الشكوك والرِّيب في وعد الله ووعد رسوله ، وهروب مستمر في الجبهة، وتحريض غيرهم على الهروب أيضًا، لكن أشد كرب كان على المسلمين نقضُ بني قريظة عهدهم ليفتحوا ثغرةً واسعة تمكّن العدو من ضربهم من الخلف.
لقد نجم النفاق حتى قال أحد المنافقين وهو معتب بن قشير: كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط، وقال أوس بن قيظي نيابة عن قومه: يا رسول الله، إن بيوتنا عورةٌ من العدو، فأذن لنا نرجع إليها فإنها خارج المدينة.
معاشر المسلمين، في هذه الأثناء وفي هذا الجو المشحون وبعد مرور عشرين ليلة أو أكثر على هذه الحالة المكروبة ينزل الفرج من السماء، يأتي النصر من عند من يملكه وبيده ملكوت السماوات والأرض وله جنود لا يعلمها إلا هو سبحانه، خذل الله الأحزاب، وبعث عليهم الريح في ليلة شاتية شديدة البرد حتى تكفَّأت قدورهم، وسقطت خيامهم، وانسحبوا يجرون ذيول الهزيمة والعار دون أن يحققوا أي شيء من أهدافهم المعلنة والمبطنة. وتُوِّج هذا النصر للمسلمين بنزول سورةٍ تحمل اسم هذه المعركة سورةُ الأحزاب، كشفت جوانب لم يدركها المسلمون مع أنهم أصحابها وأبطالها، وألقت الأضواء على سراديب النفوس ومنحنيات القلوب ومخبّآت الضمائر، وأظهرت للنور أسرارًا ونوايا وخوالج مستكنة في أعماق الصدور.
أيها المؤمنون بالله ورسوله، إن نصوص القرآن مُعدَّةٌ للعمل لا في وسط الذين عاصروا الحوادث وشاهدوها فحسب، ولكنها معدَّة للعمل وصالحة للتطبيق في كل مكان وتاريخ، كلما واجهت المسلمين مثل تلك الحوادث وأشباهها. وأمرٌ وثيق الصلة بهذا الشأن وشرط من شروط النصر والتأييد من الله تعالى افتتح الله به سورة الأحزاب حين قال سبحانه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً [الأحزاب: 1-3]، فالشرط إذًا هو اتباع الوحي عقيدة وشريعة والتوكل على الله وحده وعدم طاعة الكافرين والمنافقين، وإن العمل بهذا الشرط هو الذي يحمي القائمين على الإسلام من عدوان الكافرين والمنافقين، ويُجهض مخططات الأعداء ويحبط مكرهم ويرد كيدهم.
اللهم أشغلهم بأنفسهم واجعل بأسهم بينهم شديدا وأتهم من حيث لم يحتسبوا.
اللهم انفعنا بالقرآن الكريم وبسنة سيد المرسلين...
|