أما بعد: أيها المسلمون، فقد كانت الخطبة الماضية في مجملها عرضا سريعا لتاريخ اليهود وبيان أن إسرائيل الوارد في القرآن الكريم كثيرًا هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام، ومنه جاء بنو إسرائيل، ومن مشاهير أنبيائهم موسى وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى عليهم الصلاة والسلام.
ومن أجل هذا التراث الضخم من الأنبياء فإن اليهود يرون في أنفسهم القداسة والأفضلية المطلقة على من سواهم من البشر، كما أنهم في الوقت نفسه ينظرون إلى المسلمين عامة والعرب منهم خاصة نظرة حقد وكره؛ لأن عقد النبوة انفرط من كونه منظومًا من بني إسرائيل ليختم بمحمد وهو من العرب من ذرية إسماعيل، وتناسى اليهود مواقفهم من أنبيائهم، تلك المواقف التي عُبِّر عنها في القرآن العزيز بقول الحق تبارك وتعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنفُسُكُمْ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87]. ولم يكن حظ النبي الخاتم محمد منهم إلا مثل من سبقوه من إخوانه الأنبياء، مع يقين اليهود بأنه نبي وعلمهم المسبق بأنه سيبعث نبي في أرض الحجاز؛ ولذا تجمعوا في خيبر والمدينة انتظارًا له، لكنهم ظنوا أنه من بني إسرائيل، فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة: 89].
وقد بينت فيما مضى طرفًا مهما عن أسباب التعاون والتنسيق والتناصر الذي تم ـ ولا زال قائمًا ـ بين اليهود والنصارى، ولا يزال الحديث متصلاً في هذه المسألة، حتى يعلم أن مواقف أولئك الأقوام سواء في استيطان اليهود فلسطين أو دعم النصارى لهم وخاصة أمريكا ليس ناتجًا عن عواطف، ولم تفرضه المصالح المادية ولا الإستراتيجية أو العسكرية ولا المنافع الاقتصادية؛ لأن مصالح الغرب الاقتصادية في المنطقة لا توجد في فلسطين، وإنما توجد في غيرها كما يعلم الجميع، حيث النفط والتجمع البشري، بل إن مواقف النصارى تجاه اليهود لم تمليه مواقف سياسية، إنما هي عقيدة راسخة، لا يملك النصارى التفلت منها وتجاهلها أو التهاون بها، عمل من أجلها اليهود قرونًا عدة حتى سخّروا النصارى لخدمتهم والدفاع عن قضاياهم طوعًا وتدينًا.
معاشر المسلمين، أول من دعا إلى البعث اليهودي في فلسطين وأثار هذه المسألة هو رجل نصراني لاهوتي قبل أربعمائة سنة، وتبعه نصراني آخر تلميذٌ له؛ كتب أن اليهود سوف يعودون إلى بلادهم ـ يعني فلسطين ـ ويعيشون بسلام هناك إلى الأبد. وعلل ذلك قائلاً: "إنه تحقيق للديانة المسيحية". ثم تداعت الأصوات النصرانية المتعاطفةُ مع اليهود، حتى قامت حركة تنادي بوجوب عودة اليهود إلى فلسطين، واستخدمت هذه الحركة النصرانية اللغة العبرية وهي لغة اليهود، استخدمتها في صلواتها وفي تلاوتها للكتاب المقدس، وشددت هذه الحركة على أن العهد القديم ـ أي: التوراة وهو كتاب اليهود ـ يعد مثالاً للحاكمية الإلهية، وتنامى هذا الشعور لدى النصارى إلى أن وصل إلى الخجل تجاه آلام اليهود المشتتين في الأرض، ثم تطور الأمر، وبعد أربعين سنة من جهود تلك المنظمة رفعت مذكرة إلى الحكومة البريطانية آنذاك يطالبون فيها أن لبريطانيا شرفَ حملِ أولاد إسرائيل إلى الأرض التي وُعِد إياها أجدادُهم. وهذه الوثيقة تعبر عن مدى تحوّل النظرة لدى قطاع عريض من النصارى، تحول نظرتهم لفلسطين والقدس من كونها أرض المسيح المقدسة إلى كونها وطنًا لليهود، مما يعطي دلالة قوية على الجهد الخفيّ الذي يبذله اليهود لتسخير النصارى لخدمتهم وتوظيفهم للدفاع عنهم، بدافع ينبع من عقيدة داخل ضمائر النصارى أنفسهم، وهذا تفسيرُ تمكُّنِ ما يسمى باللوبي اليهودي داخل أمريكا، سواءً على الصعيد الرسمي أو الشعبي وقوة تأثيره.
فحقيقة الأمر إذًا أن اليهود استطاعوا أن يزرعوا في قلوب النصارى نبتةً لا تذبل، وهي وجوب خدمة اليهود، والسعي لتجميعهم في فلسطين، وتذليل كل صعب لنيل ذاك الهدف، والوقوف بقوة أمام أي محاولة لتعريض اليهود للخطر.
يجد النصارى ذلك التأكيد ليس فقط عن طريق وسائل الإعلام المتصهين، وإنما أيضًا من خلال نصوص مدسوسة في الإنجيل المقدس لدى النصارى. ولقد عبَّرت الوثيقة الآنفة الذكر التي رفعها علماء اللاهوت الإنجليز فيما عبرت عنه عن التحول من الإيمان بأن عودة المسيح للأرض ثانية تسبقها عودة اليهود لأرض الميعاد فلسطين، وإن ذلك يتم بفعل البشر. ثم توالى فتح مؤسسات ومكاتب، مهمتها الدفاع عن حقوق اليهود المسلوبة، ووجوب عودتهم للأرض المقدسة، وحتى لا يفتر هذا الحماس، فإن جرعات منشطة تعطى لهذا الجانب من خلال اعتناق بعض رهبان اليهود للمسيحية، ليجددوا دور سلفهم بولس اليهودي، ولعل من يتابع مجريات الأحداث يسمع بين حين وآخر عن اعتناق راهب يهودي للمسيحية، وذلك ليزيد من تصدعها من جهة، ولتطويعها أكثر لخدمة اليهود من جهة ثانية.
ولقد وصف صاحب كتاب (تاريخ البشرية) وهو نصراني هذا التحول بقوله: "إن تحول فريق يهودي إلى كنيسة مسيحية مسكونية أمر يدعو إلى الدهشة".
أيها المسلمون، إن التسارع المحموم في تبني النصارى لقضية اليهود يعود إلى أمرين:
الأول: اعتقاد النصارى حتمية عودة المسيح للأرض ثانية، وأن ذلك لا بد أن يسبقه تجمع اليهود في الأرض المقدسة، وهم الآن تجمعوا، لكن هل اكتمل التجمع؟
وثانيًا: للاختراق اليهودي لعقيدة النصارى بوجه عام، حتى وظفوا مشاعرهم خدمةً للمشروع اليهودي، ولقد تجسد هذا المعتقد بصورة جلية حينما أصدر رجلُ أعمالٍ مسيحي عام 1878م ـ أي: قبل مائة وعشرين سنة ـ أصدر كتابًا بعنوان (يسوع آت) أي: المسيح سيأتي، ووزع منه أكثر من مليون نسخة في أمريكا، وتُرجم إلى 48 لغة. وفي ذلك العام نفسه جَمعت إحدى المنظمات النصرانية المتعاطفة مع اليهود وتدعى: (البعثة العبرية من أجل إسرائيل) جمعت توقيعات 413 شخصية أمريكية بارزة من أعضاء الكونغرس الأمريكي والقضاة هناك ورجال الأعمال والصحافة، ورفعتها المنظمة ضمن عريضة للرئيس الأمريكي يومها سنة 1891م، يطلبون فيها تجمع اليهود في وطنهم فلسطين.
معاشر المسلمين، إنما أطلت عليكم في هذه المسألة لتعلموا أن مواقف الغرب النصراني وخاصة أمريكا، موقفهم من إسرائيل ليس ماديًا ولا سياسيًا، وإنما دينيٌ، صادر عن عقيدة، لذا فلا تنتظروا الحل من أمريكا، ولا أوربا، ولا ترتجوا خيرًا من مواقف فرنسا وروسيا والصين المتظاهرة بدعمها للحق العربي، إن حل القضية يكمن في إحياء الجهاد وتصعيده وتوسيع دائرته ودعمه، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ [الأنفال: 60]، آخرين من دونهم لا تعلمونهم، لأنهم مندسون بين المسلمين، وهم العلمانيون الذين يمثلون صف النفاق، لا يرضيهم المشروع الإسلامي ولا يريدونه، بل يعادونه، ولهذا حينما تفجرت الانتفاضة الأولى عام 1406هـ وكان التيار الإسلامي فاعلاً فيها وموجهًا تنادى القوم لمؤتمرات أوسلو وما تبعها؛ قطعًا للطريق من أن تتنامى حركة الجهاد، وإلا لماذا كان من شروط الاتفاقيات التي عقدت مؤخرًا في شرم الشيخ إعادة العناصر الجهادية إلى السجون مرة ثانية؟! وما ذاك إلا لتغييب الإسلام وإبعاده عن الساحة والاقتصار على أن المشكلة مشكلةُ أرضٍ سلبت تعاد لأهلها، فقط هكذا تلبس القضية.
إن اليهود عازمون بدافع عقدي على هدم الأقصى وإعادة بناء الهيكل، وقد رُصد لذلك مبالغ في بنوك غربية، كما أن الرسم الهندسي والمخطط اللازم للهيكل انتهي منه منذ سنوات، والفريق الفني الذي سينفذ ذلك مُعدّ ومستعد، وهم مدربون ومتخرجون من معهد خاص بالهيكل وينتظرون الأوامر. ولقد جسَّ اليهود نبض المسلمين عدة مرات للإقدام على ذلك، لكنهم يتراجعون، ويبدو أنهم في هذه المرة وجدوا الوقت غير مناسب أيضًا، فيحتاج الأمر حسب تقديرهم إلى إخراج جديد.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسرائيل فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 4].
اللهم بارك لنا في القرآن الكريم، وانفعنا بسنة سيد المرسلين، أقول قولي هذا...
|