الحمد لله معز من أطاعه واتقاه، ومذل من خالف أمره وعصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: أيها المسلمون، أمرٌ بالغ الأهمية في شأن بيان حقيقة الموقف اليهودي من هذا الدين وأهله، وموقفهم من فلسطين، ونظرتهم لاحتلالهم إياها، ذلك الأمر هو: ما موقف النصارى منهم؟ وقد عُلم يقينًا العداء التاريخي بينهم، حتى إن النصارى يتهمون اليهود بأنهم وراء صلب المسيح على حسب اعتقادهم. فما هو التفسير لتعاون أهل الملتين الآن وعملهم جميعًا على تثبيت أقدام اليهود ووقوف الدول النصرانية ضد أي عملٍ عسكري أو سياسي أو اقتصادي يضر بالدولة العبرية؟!
وليبان ذلك نقول: إن الأصل في دين المسيحية أو النصرانية هو التوحيد، وهو الدين الذي جاء به الأنبياء جميعًا عليهم الصلاة والسلام، وما جاء عيسى عليه السلام إلا به، قال الله تعالى في ذلك: وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المائدة: 116، 117].
ومع ما دخل كلاً من التوراة والإنجيل من تحريف عبر التاريخ إلا أنه لا يزال يوجد فيهما الآن نصوصٌ تدل على توحيد الله سبحانه. والشيء العجيب جدًا في ذلك أن بولس اليهودي الذي اعتنق النصرانية عام 38 للميلاد، أي: بعد رفع المسيح عليه السلام بخمس سنوات استطاع أن يغير اتجاهها ويحدث فيها ما ليس من أصلها، حيث كان من أشد وألدِّ أعدائها. ولم يقتصر دور بولس على كونه معتنقًا للديانة المسيحية الجديدة فقط، بل أصبح داعيةً ومعلمًا للمسيحيين، واستطاع بمكره ودهائه ثم بتغفيل النصارى وغبائهم، استطاع أن يدخل نصوصًا كثيرة في الإنجيل منسوبة إليه، وكأن الإنجيل نزل على بولس ولم ينزل على عيسى ابن مريم.
ولقد راجت عقيدة التثليث في النصرانية على حساب التوحيد، وانتشرت حينما دخل الوثنيون من الرومان واليونان فيها، حيث كان أكثر من يحضر المجامع الكنسية من الرومان واليونان ولهم السيطرة، فقرر الرومان وبسلطة وقوة قسطنطين ملكهم، قرروا عقيدة التثليث رسميًا في الديانة المسيحية، وكان ذلك عام 325 للميلاد. وعمم هذا القرار في كل مكان ليعُمل به، ويُنبذ التوحيد، كل ذلك تمَّ بفعل جهود اليهودي بولس ومدرسته التي عبثت في الديانة النصرانية؛ لتقوضها من داخلها، ولتدخل نصوصًا في الإنجيل تحتم على النصارى وجوب احترام اليهود وكتابهم التوراة، وتلزمهم بالسعي لخدمة اليهود وهم لا يشعرون.
واستمرّ حكم الرومان لفلسطين بما فيه من وثنيات محسوبة على المسيحية إلى القرن السادس الميلادي، حيث جاء الإسلام فاضطرهم بفتوحاته وانتصاراته إلى الانحصار في أوربا ورحيلهم من فلسطين. وهناك في أوربا سيطرت الكنيسة ورجالها على جوانب الحياة كلها، حتى كان البابا هو الذي يعين الحكام، واحتكروا حقَّ قراءة وفهم نصوص الإنجيل عليهم، وحرّموا على عامة الناس قراءتها فضلاً عن فهمها أو تفسيرها. ولكن أين اليهود حينذاك؟
إنهم منذ تشتّتهم عام 70 للميلاد وهم في ذلة ومهانة، ليس لهم دور في الحياة، ولا كيان يوحِّدهم، كل مجموعة منهم منغلقة على نفسها، جراحات السبي والشتات والطرد تحتقن حقدًا في قلوبهم، مقت البشر لهم وكرههم يطاردهم أينما حلوا. غير أنهم عاشوا في ظلّ الدولة الإسلامية قرونًا عديدة، مكفولة لهم حقوقهم التي منحتها لهم الشريعة الإسلامية، وظلوا كذلك إلى أن استولى النصارى على الأندلس وأخرجوا المسلمين منها عام 1492م، فلقي اليهود من النصارى أسوأ معاملة وذاقوا منهم صنوف التعذيب فيما سمي بمحاكم التفتيش التي أقامها نصارى الأندلس لتعذيب المسلمين واليهود، فاضطر اليهود حينها إلى الهجرة بحثًا عن موطن جديد، واستقروا في شمال أوربا (ألمانيا وما حولها)، وبعض منهم استوطن شمال أفريقيا، ولما اكتشف الأوربيون أمريكا هاجر بعض اليهود إليها، وعمل اليهود الأوربيون سندًا للثورات ضد الكنيسة إن لم يكونوا هم المدبرون لها، وفي موطنهم الجديد نشروا ثقافتهم، وتغلغل الأدب اليهودي والعقيدة اليهودية في قلوب بعض النصارى، وتمازج مع أفكارهم، حتى صنف أحد النصارى الثائرين على جمود الكنيسة، ألف كتابًا بعنوان: "عيسى ولد يهوديًا"، وذلك من شدة تأثره بالعقيدة اليهودية التي لقيت عطفًا وحنانًا من نصارى شمال أوربا، وأخذ الفكر اليهودي يسري بين النصارى هناك في أوربا، وكذلك في أمريكا حيث هاجر عددٌ منهم بعد اكتشافها، ونفذ إلى صميم العقيدة المسيحية ليركز على ثلاثة جوانب:
الأول: أن اليهود هم شعب الله المختار، وأنهم يكوِّنون بذلك الأمة المفضلة على كل الأمم، ويستندون في هذه الدعوى إلى نصٍ أو نصوص مثبتة في التوراة التي في أيديهم.
ثانيًا: وأن ميثاقًا إلهيًا يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين أعطاه الله لإبراهيم حتى قيام الساعة، ويستندون في هذه الدعوى أيضًا إلى نصٍ في التوراة، فإذا كانوا كذلك فهل من السهولة أن يقبلوا بمن يشاركهم في هذا الحق ويسكن معهم في فلسطين ويتنازلون عما سعوا في تحصيله قرونًا طويلة؟!
ثالثًا: مما يركز عليه اليهود أن المسيحيين يؤمنون بعودة المسيح ثانية، واستطاع اليهود من خلال عبثهم في العقيدة المسيحية أن يربطوا هذا الإيمان بقيام دولة صهيون في فلسطين، أي: بتجميع اليهود حتى يظهر المسيح فيه مرة ثانية.
هذه الأمور الثلاثة ألَّفت في الماضي وهي تؤلف اليوم قاعدة متينة وصلبة في وجوب أن يسعى النصارى لتوطين اليهود في فلسطين، ومدِّهم بكل ما يحتاجونه من أجل ذلك واستمراره، ويرون ـ أي: النصارى ـ أن ذلك دينٌ يفرضه عليهم إيمانهم بالمسيح.
كل هذا حدث قبل خمسمائة عام من الآن، ولا زال معمولاً به، ولقد جاء في كتاب دائرة المعارف البريطانية: "إن الاهتمام بعودة اليهود إلى فلسطين قد بقي حيًا في الأذهان بفعل النصارى المتدينين، وعلى الأخص في بريطانيا أكثر من فعل اليهود أنفسهم". ويؤكد هذا المعنى الزعيم الصهيوني وايزمن بقوله: "إن من الأسباب الرئيسية لفوز اليهود بوعد بلفور هو شعور الشعب البريطاني المتأثر بالتوراة وتغنِّيه بالشوق الممض لأرض الميعاد".
لم يقف العبث اليهودي بالمسيحية واختراق اليهود للنصارى عند ذلك، بل تغلغل الفكر اليهودي إلى العمق؛ فعندما ترجم الكتاب المقدس ـ وهو ما يعنون به التوراة والإنجيل ـ ترجم إلى اللغات القومية الأوربية أصبح ما ورد منه في التوراة من تاريخ ومعتقدات وقوانين العبرانيين وأرض فلسطين أمورًا مألوفة في أفكار النصارى الأوربيين، وأضحى كثير من النصارى البروتستانت يرددونها عن ظهر قلب، وأصبح المسيح نفسه معروفًا، لكنهم لم يعتقدوا أنه ابن مريم فقط كما كانوا يعتقدون، بل واحد من سلسلة طويلة من الأنبياء العبرانيين، وحل أبطال العهد القديم ـ أي: التوراة ـ كإبراهيم وإسحاق ويعقوب محل القديسين والكاثوليك. كل هذه ونحوها لم تُنسِ الناس هناك الأرض المقدسة، حيث ارتبطت بدلالات يهودية.
وهكذا أصبحت فلسطين أرضًا يهودية في الفكر المسيحي في أوربا البروتستانتية، وغدا النصارى يعتقدون أنه من المتحتم عليهم السعي في توطين اليهود بفلسطين، وأن ذلك عقيدة لا تقبل الجدل، والتكاسلُ عنه خطيئةٌ لا تغتفر.
|