أما بعد: أيها المسلمون، فإن رسول الله هو الصورة العملية التطبيقية لهذا الدين، ويمتنع أن تعرف دين الله ويصح لك إسلامك بدون معرفة الرسول وكيف كان هديه وعمله وأمره ونهيه، لقد سالم وحارب، وأقام وسافر، وباع واشترى، وأخذ وأعطى، وما عاش وحده، ولا غاب عن الناس يومًا واحدًا، ولا سافر وحده، وقد لاقى أنواع الأذى، وقاسى أشد أنواع الظلم، وكانت العاقبة والنصر له. بُعث على فترةٍ من الرسل وضلال من البشر وانحرافٍ في الفطر، وواجه ركامًا هائلاً من الضلال والانحراف والبعد عن الله والإغراق في الوثنية، فاستطاع بعون الله أن يُخرجهم من الظلام إلى النور، ومن الضلال إلى الهدى، ومن الشقاء إلى السعادة، فأحبُّوه وفدوه بأنفسهم وأهليهم وأموالهم وأولادهم وأوطانهم، واقتدوا به في كل صغيرة وكبيرة، وجعلوه نبراسًا لهم يستضيئون بنوره ويهتدون بهديه، فأصبحوا أئمة الهدى وقادة البشرية.
هل تطلبون من الْمختـار معجزةً يكفيه شعب من الأجداث أحياه
من وحّد العُرْب حتى كان واترهم إذا رأى ولـد الموتـور آخـاه
وما نقل الشرع إلى منَ بعدهم ولا وصل إلينا إلا عن طريقهم، فما لم يفعلوه أو لم ينقلوه فليس شرعًا، وما أصيب المسلمون إلا بسبب الإخلال بجانب الاقتداء به والأخذ بهديه واتباع سنته، وقد قال الله تعالى: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب: 21]، حتى اكتفى بعض المسلمين من سيرته بقراءتها في المنتديات والاحتفالات، ولا يتجاوز ذلك إلى موضع الاهتداء والتطبيق، وبعضهم اكتفى بقراءتها للبركة أو للاطلاع على أحداثها ووقائعها أو لحفظ غزواته وأيامه وبعوثه وسراياه.
معاشر المسلمين، ماذا تمثل احتفالات الموالد في حقيقتها؟ ومتى بدأت؟ ومن أول من قام بها؟ وماذا يجري فيها؟ إن الإجابة على هذه الأسئلة يسلمنا إلى معرفة حكم الاحتفال بالموالد، هل هو واجب أو سنة أو مباح أو حرام؟
الموالد ـ عباد الله ـ جمع مولِد، وهو من حيث المدلول والمعنى والحقيقة لا يختلف بين إقليم إسلامي وآخر وإن اختلفت التسمية، فتسمى في بلاد المغرب الأقصى: المواسم، وأهل المغرب الأوسط يسمونها: الزرد جمع زردة، فيقال: زردة سيدي أبي الحسن الشاذلي مثلاً، وأهل مصر والشام وبلدان الجزيرة العربية يسمونها: الموالد، فأهل مصر يقولون مثلاً: مولد السيدة زينب أو مولد السيد البدوي، ونحو ذلك، وربما سميت الحضرة لاعتقاد من يقيمها بحضور روح الولي فيها ولو بالعناية والبركة، أما أهل الباكستان وفي الهند فيسمونه: ميلاد.
وأما ما يجري فيها من أعمال فتختلف كيفًا وكما، بحسب وعي أهل الإقليم وفقرهم وغناهم، فالمولد النبوي الشريف عبارة عن اجتماعات في المساجد أو في بيوت الأغنياء، وربما استأجر القائمون عليه موقعًا عامًا كالفنادق وقصور الأفراح والاستراحات، وهي تبتدئ غالبًا من هلال ربيع الأول إلى اليوم الثاني عشر منه، وربما توسعوا في الزمان ليشمل شهر ربيع الأول كله، تُتْلى فيها جوانب من السيرة النبوية؛ كالنسب الشريف، وقصة المولد، وبعض الشمائل المحمدية الطاهرة الخَلْقية والخُلُقية، مع جعل اليوم الثاني عشر من ربيع يوم عيد يوسع فيه على العيال وتعطل فيه المدارس والكتاتيب ويلعب فيه الأطفال ويلهون.
وربما توسّع بعض الجهات فأقاموا حفلة المولد عند وجود أية مناسبة من موت أو حياة أو تجدد حال؛ فتذبح الذبائح وتعد الأطعمة ويدعى الأقارب والأصدقاء وقليل من الفقراء، ثم يجلس الكل للاستماع، ويتقدم شاب حسن الصوت فينشد الأشعار ويترنم بالمدائح، وهم يرددون معه بعض الصلوات على النبي ، وتقرأ قصة المولد، إلى آخر ما هنالك من المظاهر، حتى إذا بلغ القارئ عبارة: "وولدته آمنة مختونًا" قام الجميع إجلالاً وتعظيمًا، ووقفوا دقائق في إجلال وإكبار تخيُّلاً منهم وضعَ آمنة لرسول الله ، ثم يؤتى بالمجامر وطيب البخور فيتطيب الكل، ثم تُدار كؤوس المشروبات فيشربون، وتقدّم قصاع الطعام فيأكلون ثم ينصرفون، وهم بهذا يعتقدون فعل قربةٍ حسنة يؤجرون عليها، بل ربما ظنَّ بعضهم واعتقد أنه غُفِر له ذنبه بحضور هذا الاحتفال حتى ولو كان يتخلف عن الصلاة ويقصِّر في أداء الفرائض والمكتوبات.
عباد الله، مما يجدر التنبيه إليه هنا أن جُلَّ القصائد والمدائح التي يتغنى بها في الموالد لا تخلو من ألفاظ الشرك وعبارات الغلو الذي نهى الرسول عنه بقوله: ((لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم، وإنما أنا عبد الله ورسولُه، فقولوا: عبد الله ورسوله)) رواه البخاري ومسلم.
كما يُختم الحفل بدعوات تحمل ألفاظ التوسلات المنكرة والكلمات الشركية المحرمة؛ لأن جُلَّ الحاضرين عوام أو غلاة في حب التوسلات الباطلة التي نهى عنها الشرع، كالسؤال بجاه فلان وحق فلان. والشيء الذي يجب أن يقال في هذا الصدد أن هناك قاسمًا مشتركًا بين المتحمسين لإقامة الموالد والساعين في الدعوة إليها، في الغالب يتمثل فيما يلي:
1- ذبح النذور والقرابين للسيد أو الولي المقام له الاحتفال، سواء كان الرسول أو غيره.
2- اختلاط الرجال الأجانب والنساء الأجنبيات.
3- الرقص وضرب الدفوف والتزمير بالمزامير المختلفة.
4- إقامة الأسواق للبيع والشراء، وهذه الأسواق غير مقصودة لهذا الشيء نفسه، غير أن التجار يستغلون التجمعات الكبرى ويجلبون إليها بضائعهم لعرضها وبيعها.
5- دعاء الولي أو السيد والاستغاثةُ به والاستشفاع وطلبُ المدد، مما يتعذر الحصول عليه من رغائب وحاجات، وهو شرك أكبر.
6- سعي بعض الحكومات في الدول الإسلامية وغيرها على إقامة هذه المواسم وإعطائها التسهيلات التي تكفل لها القيام بها وإتمامها، وقد تسهم بشيء من المال واللحم والطعام ونحوها، حتى إن فرنسا النصرانية أيام استعمارها لبلدان المغرب العربي كانت تخفض تذاكر الإركاب بالقطارات أيام الموالد تشجيعًا منها لذلك، هذا في الوقت الذي يجد فيه المسلمون عنتًا ومشقة عند ممارستهم لشعائرهم الدينية.
هذه هي الموالد في عرف الناس اليوم، ومنذ ابتداعها وإحداثها على يد العُبيديين الذين يسمون أنفسهم الفاطميين، وكانت بدايتها في منتصف القرن الرابع الهجري، أحدثوها في القاهرة سنة 362هـ أيام حكمهم لمصر. وقد نقل المقريزي في كتابه "الخطط المقريزية" (2/384) أنه كان للعبيديين طوال السنة أعياد ومواسم، هي: موسم رأس السنة، وموسم أول العام، ويوم عاشوراء، ومولد النبي ، ومولد علي بن أبي طالب ، ومولد الحسن، ومولد الحسين رضي الله عنهما، ومولد فاطمة الزهراء رضي الله عنها، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وليلة نصفه، وليلة أول شعبان، وليلة نصفه، وموسم ليلة رمضان، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وموسم عيد الفطر، وموسم عيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وموسم فتح الخليج، ويوم النوروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس، وأيام الركوبات. اهـ كلامه.
كما قد صرح مفتي الديار المصرية الأسبق محمد بخيت المطيعي الحنفي رحمه المتوفى سنة 1354هـ ـ أي: قبل سبعين عامًا ـ بأن أول من ابتدع الموالد وأحدثها هم العبيديون، وذكر ذلك أيضًا من علماء مصر الشيخ علي محفوظ والسيد علي فكري. والعبيديون هؤلاء هم فرقة من الفرق الإسماعيلية الباطنية التي قال عنها الإمام القاضي الباقلاني الشافعي رحمه الله: "قوم ظاهرهم الرفض، وحقيقتهم الكفر المحض". والفرق الباطنية على اختلافها يجمعها الكفر بالله تعالى وإنكار وجوده والقول بتعدد الآلهة والطعن في الرسل والاستهتار بالشرائع وإنكار البعث والجزاء وإباحة المحرمات. وقوم هذا شأنهم ليس غريبًا أن يسعوا جادين في هدم شرائع الإسلام وشعائره.
أيها المسلمون، بعد هذا البيان لعله من المناسب الآن ذكر حكم إقامة احتفالات الموالد، سواء كانت لميلاد الرسول أم لغيره، فقد عرفتم أنها أُحدثت في القرن الرابع الهجري، إذ القرون المفضلة الأولى مضت ولم تعرف فيها هذه الموالد، ومن المعلوم أنّ كل ما لم يكن على عهد رسول الله وأصحابه دينًا لم يكن لمن بعدهم دينًا إذا كان بإمكان الرسول وصحابته فعله. وحفلات الموالد المستحدثة لم تكن موجودة على عهد رسول الله ولا أصحابه ولا في عهود التابعين وتابعيهم، فكيف تكون دينًا يؤجر عليها صاحبها؟! وإنما هي بدعة، وبدعة ضلالة بقول رسول الله : ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) رواه أصحاب السنن بسند صحيح. فإذا كان الرسول قد حذرنا من محدثات الأمور وأخبرنا أن كل محدثة بدعة وأن كل بدعة ضلالة وأن الإمام مالك رحمه الله قال لتلميذه الإمام الشافعي رحمه الله: "إنّ كل ما لم يكن على عهد رسول الله وأصحابه دينًا لم يكن اليوم دينًا" وقال: "من ابتدع في الإسلام بدعة فرآها حسنة فقد زعم أن محمدًا قد خان الرسالة؛ وذلك لأن الله تعالى قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِينًا" [المائدة: 3] فهل يكون ـ أيها المؤمنون ـ المولد النبوي بالمعنى العرفي غير بدعة وهو لم يكن سنة من سنن الرسول ولا من سنن الخلفاء الراشدين ولا من عمل السلف الصالح، وإنما أحدثته في الإسلام فرقة يجمع علماء الإسلام على أنها كافرة وإن تسمّت بالإسلام وادعته؟!
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وارزقنا علمًا نافعًا، وبصرنا بعيوب أنفسنا، ووفقنا للهدى وسددنا.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|