اعلموا ـ رحمني الله وإياكم ـ أن الله عز وجل قد تكفل بأرزاق العباد وحدّدها من قبل أن يظهروا في هذه الدنيا، قال : ((إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح، ويؤمر بأربع كلمات: بكتْبِ رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد))، وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((لا يستبطئنّ أحد منكم رزقه؛ فإن جبريل ألقى في روعي أن أحدا منكم لن يخرج من الدنيا حتى يستكمل رزقه، فاتقوا الله ـ أيها الناس ـ وأجملوا في الطلب، فإن استبطأ أحد منكم رزقه فلا يطلبه بمعصية الله، فإن الله لا ينال فضله بمعصيته)).
فلا يحملنكم حب المال والطمع فيه أن تطلبوه من غير حله؛ بالتعامل المحرم والطرق غير المشروعة، فإن في الحلال كفاية عن الحرام، والمؤمن قد أغناه الله بحلاله عن حرامه، وكفاه بفضله عمن سواه، والكسب الحلال يبارك الله فيه وإن كان قليلا، فينمو ويكون عونا لصاحبه على طاعة الله، والمال الحرام يمحق الله بركته وإن كان كثيرا، فلا ينتفع به صاحبه وإن بقي في يده، وقد يسلط الله عليه من يتلفه فيتحسر عليه صاحبه.
وقد رغب نبينا صلوات الله وسلامه عليه في اكتساب الحلال، ورهب وحذر من اكتساب الحرام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ [المؤمنون: 51]، وقال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ [البقرة: 172]))، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء: يا رب، يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام، ((فأنى يستجاب لذلك؟!)).
ومن طرق كسب الحلال التي أباحها الإسلام التجارة، وقد بين الله في كتابه ونبينا صلوات الله وسلامه عليه في سنته أحكام البيع والشراء وأحكام الإيجار والكفالات والرهن وغير ذلك مما يتعلق بالتجارة، وجعل لها آدابا كان لزاما على المسلم التاجر أن يتحلى بها، فمِن ذلك التحلي بالأخلاق الفاضلة في البيع والشراء، فالصدق والأمانة في التعامل صفتان من صفات المؤمن بوجه عام، يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ ٱللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ ٱلصَّادِقِينَ [التوبة: 119]، وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ ٱلأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا [النساء: 58]، ولكنهما من الصفات التي تُطلب في التعاملات المالية بوجه خاص، قال : ((التاجر الأمين الصدُوق مع النبيين والصديقين والشهداء)) رواه الترمذي، وفي الصحيحين: ((فإن صدقا وبيَّنا بورك لهما في بيعهما، وإن كذبا مُحقت بركة بيعهما)).
والصدق كما أنه مطلوب مع المسلمين فهو مطلوب مع غير المسلمين؛ لذا لما صدق المسلمون في بيوعهم وسائر تعاملاتهم كان لذلك الأثر البالغ في دخول كثير من المجتمعات الكافرة في الإسلام أفواجًا، حتى انقلبت بالكامل مجتمعات إسلامية.
والأمانة كذلك خير مطلب، يجب أن يتمسك بها المسلم، قال : ((أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك)) حديث صحيح.
ومن الأخلاق التي تتميز بها المعاملات التسامح والتساهل في البيع والشراء وسائر التعاملات، قال : ((رحم الله رجلاً سمحًا إذا باع، سمحًا إذا اشترى، سمحًا إذا قضى، سمحًا إذا اقتضى)).
ويتمثل هذا التسامح في صور كثيرة، منها إنظار المدين المعسر، وكلِّ ما فيه أجل من التعاملات بإمداد الأجل ما دام بالإمكان الانتظار، فإن الله جل وعلا يقول: وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ [البقرة: 280]. وروى مسلم عن رسول الله أنه قال: ((أُتي بعبد من عباد الله آتاه الله مالاً، فقال له الله: ماذا عملت به في الدنيا؟ قال: يا رب، آتيتني مالاً، فكنت أبايع الناس، وكان من خلقي الجواز، فكنت أيسِّر على الموسر وأنظر المعسر، فقال الله: أنا أحق به منك، تجاوزوا عن عبدي)).
ومن ذلك إقالة البيع، أي: الاستجابة إلى فسخه إذا رغب المشتري ذلك؛ لظهور عدم احتياجه للمعقود عليه، قال : ((من أقال مسلمًا أقال الله عثرته)) رواه أبو داود وابن ماجه وسنده صحيح.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا [النساء: 29].
|