أما بعد: يا عباد الله، اتقوا الله حق تقواه، واعلموا أن الله سبحانه وبحمده يبتلي عباده بأسباب الابتلاء؛ ليميز الخبيث من الطيب، ولكي يزداد الذين آمنوا إيمانًا، ويزداد الذين في قلوبهم مرضٌ رجسًا على رجسهم، يقول جلا وعلا: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأنعام: 42، 43].
وأنتم ـ يا عباد الله ـ قد علمتم أنّ ولي الأمر حفظه الله قد أمر الأمّة في هذه البلاد المباركة بإقامة صلاة الاستسقاء طلبًا للرحمة من الله واستغاثة به سبحانه، كي يرحم البلاد والعباد، فيسقيها غيثًا مغيثًا، ولا يبلُوَها بالقحط فتشقَى وتنكد، ولكننا فوجئنا أن الحضورَ كان مؤلمًا ومخزِيًا؛ لأنّ الناس عن الحضور أحجموا، فكم من شخص قد نام كأنهم لا يريدون الرحمة، ولا يريدون الخير، كأنهم قد استغنوا عن رحمة الله، وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [الحديد: 24]، فالعذاب ـ نعوذ بالله من العذاب ـ إذا كان العذاب لا يجبرنا على الرجوع إلى الله فمتى يكون ذلك؟! وكيف تكون هذه الغفلة ونحن نرى آثار الجدب والقحط في دول ليست عنا ببعيد؟! هي الآن دولٌ منكوبة، يموت فيها الناس جماعات وأفرادًا جوعًا، ويتلقّفون الحسنات من دول غيرهم، حتى تعرّضوا لفتنة في دينهم، نعوذ بالله من ذلك، فنصل إلى أن يبتلينا الله ببعض ذلك فلا يتضرع الناس لربهم ولا يتذللون بين يديه، وهذه مصيبة عظيمة عمّت بها البلوى.
فأكثر النّاس اليوم لا يحضرون الصّلوات العارضة، مثل صلاة الاستسقاء وصلاة الخسوف والكسوف، كأنهم لا يخافون الله، ولا يخشون ولا يرجون رحمته، ولا يخافون عذابه، ولا يطمعون بثوابه، لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ [التوبة: 42]، فأكثرهم ينتظر المباراة على التلفاز ولو كانت في وقت مبكّر جدًا، ولا يحرص على أن يسجد بين يدي ربه يتضرع إليه، وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون: 76].
صحيح أن الاستسقاء ليس فرض عين، وصحيح أيضًا أنها ليست واجبة، ولكن الأمر محزِن أن نرى ونعلم أن الذين لا يحضرون صلاة الاستسقاء في أتمّ صحة وعافية، وفي فرشهم يتقلبون، وعلى مواعيد الدوام يحرِصون، وإذا كان تشجيعًا لكرة تراهم في الشوارع يفحّطون، والمساجد تفتقر إلى ذلك الكمّ الهائل منهم إذا أصبح الأمر تضرّعًا لله ورغبة ورهبة وخشوعًا له، إذ الناس يحجبون كأنهم لا يريدون فضل الله ولا رضوانه، فالرب ينادينا: ((يا عبادي، كلكم ضالٌ إلا من هديته، فاستهدوني أهدكم))، ونقول له: لا نريد منك هداية! هذه هي الحال تنطِق بذلك فعلاً، والفعل أبلغ من القول، أين نحن وربنا الله الذي ليس لنا ربٌ سواه، الغني الحميد، الفعال لما يريد، كلٌ إليه مفتقر، وهو عن كل شيء غني سبحانه وبحمده، ومع ذلك يدعونا ويتقرب إلينا، يقول: ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ [غافر: 60]، فنشحّ على أنفسنا حتى بالدعاء بحجّة النوم أو العمل أو غير ذلك، ومع أنها قد تكون النومة الأخيرة فلا نصحو بعدها، وقد يكون ذهابنا إلى العمل لا رجعة بعده.
وما يحزّ في النفس أن العذاب كان يعيد المشركين إلى ربهم فيدعونه مخلصين له الدين، ونحن أصبحنا حتى بالعذاب قليلٌ منا من يرجع، أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ [الأعراف: 100].
فالبعض من الذين يتخلفون عن حضور صلاة الاستسقاء يظنون أن المياه موجودة في منازلهم في علوها وأسفلها، والماء متيسر على كلّ حالة، فلا يشعر بمزيد حاجة إلى نزول القطر من السماء، وأن المياه تصله باستمرار في بيته بكل يسر وسهولة بحمد الله ومنته، ولكن هل يعني هذا أن ننشغل أو نلتفت عن صلاة الاستسقاء؟! هل استغنى البعض عن رحمة ربه؟! إن أولئك الذين يظنون أن المياه متوفرة في كل لحظة ومن ثم لا يشعرون بمسيس الحاجة ومدى الحاجة إلى الغيث من السماء قد يجهلون قول الله جل وعلا: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ [الملك: 30]. والله، لو غارت المياه لعجزت قوى الجن والإنس وقوى البشرية بآلاتها ومخترعاتها ومحطاتها أن تجذب ولو قطرة واحدة من باطن الأرض؛ لأن الله جل وعلا هو الذي خلق هذا الماء، وهو الذي أنزله، وهو القادر على أن يجعله جمادًا لا يخرج عبر هذه الأنابيب، وهو القادر على أن يجعله صلبًا لا يسيل فيها، وهو القادر على أن يحبسه عن العباد، ليعرفوا مدى ضعفهم، وليدركوا حقيقة ذلهم وفقرهم إلى خالقهم، أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ [الواقعة: 68-70]، فاشكروا الله على ما رزقكم وأن يسر لكم هذه النعم، واعلموا أن الله إذا أراد بقوم سوءا فلا مردّ له، قال سبحانه: وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلا مَرَدَّ لَهُ [الرعد: 11]، ولا تعتمدوا على ما عندكم من خزانات وصنابير للمياه وتظنون أنكم قد استغنيتم، فإن الله هو الملك، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، فكان حريًا بالمسلمين إذا سمعوا نداء ولي أمرهم أن يلبوا ويستجيبوا؛ عسى الله أن يغيثهم ويرفع بلاءهم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.
|