أما بعد: فأوصيكم ـ أيها الناس ـ ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، إنه سبحانه خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا.
عباد الله، إن أوجب الواجبات على العباد معرفة توحيد الله عز وجل ومعرفة ما يناقضه من الشرك والخرافات والبدع، ذاك أن التوحيد هو القاعدة والأساس في دين الإسلام الذي لا يقبل الله عملاً إلا به، التوحيد هو أصل الأصول الذي خلقنا لأجله، والأعمال كلها متوقف قبولها واعتبارها على تحقيق هذا الأصل العظيم.
عباد الله، إنه لا يستقيم توحيد عبد إلا بمعرفة الحق وما يضاد ذلك الحق ثم الحذر منه، وهذا القرآن الكريم كله آمر بالتوحيد ومحذر من الشرك: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ [يوسف: 108].
عباد الله، لقد تنادت الأدلة المتكاثرة والحجج المتضافرة والبراهين المتوافرة على عظم أمر التوحيد وخطر ما يضاده وشدّة الخوف على الناس من الانحراف والزيغ، ولماذا لا يخاف عليهم والشياطين ما فتئت تترصّد لبني آدم تجتالهم وتغويهم؟! وفي الحديث القدسي: ((خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا)) أخرجه الإمام مسلم.
عباد الله، ومما يضاد التوحيد ما يعتقده بعض أهل الجاهلية وأتباعهم في هذا الزمان من اعتقادات وبدع في بعض الأيام وبعض الشهور من العام، ومن ذلك ما يعتقده بعضهم في هذا الشهر من العام ألا وهو شهر صفر.
عباد الله، إنَّ شهركم هذا هو أحد الشهور الهجرية، وهو الشهر الذي يلي شهر الله المحرم، ولقد سمي بهذا الاسم (صفر) لإصفار مكة من أهلها أي: خلوها من أهلها إذا سافروا، وقيل: بل سمَّوا الشهر صفر لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل فيتركون من لقوا صفرًا من المتاع.
عباد الله، لقد كان للعرب في الجاهلية في شهر صفر منكران عظيمان:
الأول: التلاعب فيه تقديمًا وتأخيرًا حيث كانوا في الأشهر الحرم يقدمون ويؤخرون حسب أهوائهم، وذلك لأن الله سبحانه جعل في العام أربعة أشهر حرم، حرم فيها القتال تعظيمًا لشأنها، وهذه الأشهر هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب، ومصداق ذلك في كتاب الله سبحانه: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ [التوبة: 36]. فكان المشركون إذا أرادوا أن ينتهكوا حرمة شهر المحرّم قدّموا شهر صفر وجعلوه مكانه حتى لا تحول الأزمنة الفاضلة بينهم وبين ما يشتهون.
أما المنكر الثاني الذي كان يرتكبه العرب في مثل هذا الشهر فهو التشاؤم منه، حيث كانوا يعتقدون أنه شهر حلول المكاره ونزول المصائب، فلا يتزوج من أراد الزواج في هذا الشهر لاعتقاده أن لا يوفَّق، ومن أراد تجارة فإنه لا يمضي صفقته في شهر صفر خشية أن لا يربح.
ولهذا ـ عباد الله ـ أبطل هذا الاعتقاد الزائف، فشهر صفر شهر من أشهر الله، وزمان من أزمنة الله، لا يحصل فيه إلا ما قضاه الله وقدره، ولم يختص سبحانه هذا الشهر بوقوع مكاره ولا بحصول مصائب، فالأزمنة لا دخل لها في التأثير ولا فيما يقدره الله سبحانه، فصفر كغيره من الأزمنة يقدر فيه الخير والشر.
عباد الله، إن كان أهل الجاهلية يعتقدون في بعض الأشهر الاعتقادات الباطلة بسبب جهلهم وبعدهم عن الهدي النبوي فما بال فئام من أمة محمد تأبى إلا التشبه بأهل الجاهلية والحذو حذوهم؟! فنجد البعض يتشاءم من زيارة المرضى في بعض أيام هذا الشهر، وطائفة تمنع الزيجات وإحياء بعض السنن في هذا الشهر تمسكًا بما عليه أهل الجاهلية.
ومما يعتقده البعض وخاصة في بعض الأقطار الإسلامية أنه في آخر يوم أربعاء من هذا الشهر ينزل الله سبحانه آلاف البليات والكوارث حتى يكون ذلك اليوم أصعب أيام السنة وأشدها، وعلى من أراد الخلاص من شرور ذلك اليوم أن يصلي أربع ركعات بصيغة معيّنة ثم يختم صلاته بالدعاء المعين وفيه: "اللهم اكفني شر هذا اليوم وما ينزل فيه يا كافي المهمات ويا دافع البليات".
عباد الله، لقد سئلت اللجنة الدائمة عن هذه الصلاة وتوابعها فأجابت: "إنّ هذه النافلة المذكورة في السؤال لا نعلم لها أصلاً لا من الكتاب ولا من السنة، ولم يثبت أن أحدًا من سلف هذه الأمة وصالحي خلفها عمل بهذه النافلة، بل هي بدعة منكرة، وقد ثبت عن رسول الله أنه قال: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))، وقال أيضًا عليه الصلاة والسلام: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد))، ومن نسب هذه الصلاة وما ذكر معها إلى النبي أو إلى أحد من الصحابة رضي الله عنهم فقد أعظم الفرية، وعليه من الله ما يستحق من عقوبة الكذابين".
وثقتُ بربي وفوّضت أمري إليه وحسبي به من معين
فلا تبتئس لصروف الزمان ودعنِي فإنّ يقينِي يقينِي
عباد الله، ومن الاعتقادات الباطلة في هذا الشهر اجتماع بعض الناس في آخر أربعاء من شهر صفر بين العشاءين في بعض المساجد، ويتحلّقون إلى كتاب الله، يكتب لهم على أوراق آيات السلام السبعة على الأنبياء كقوله تعالى: سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [الصافات: 79]... إلخ، ثم يضعونها في الأواني ويشربون من مائها ويعتقدون أن سر كتابتها كان في هذا الوقت، ثم يتهادونها إلى البيوت لاعتقادهم أن هذا يذهب الشرور، وهذا لا شك أنه اعتقاد فاسد وتشاؤم مذموم وابتداع قبيح يجب أن ينكره كل من يراه على فاعله.
عباد الله، إن التشاؤم بالأزمنة والتشاؤم بالأشهر وببعض الأيام أمر يبطله الإسلام لما فيه من الظن السيئ بالرب سبحانه، ومن الاعتقاد الباطل الذي لا ينبني على دليل أو برهان، وهذا التشاؤم هو جنس الطيرة التي نهى عنها فقال: ((لا عدوى ولا طيرة))، وفي الحديث الآخر: ((الطيرة شرك، الطيرة شرك)).
عباد الله، لا يفتأ أهل الجاهلية وأتباعهم أن يوجدوا لمعتقداتهم ما يثبت صحتها ويشهد لها، حيث ابتدعوا أحاديث ونصوصا نسبوها إلى النبي وهو منها براء، كل ذلك لأجل البرهنة على أعمالهم والاستشهاد لها، ومن ذلك ما يروى عن النبي أنه قال: ((من بشرني بخروج صفر بشرته بالجنة))، ذكره الإمام الشوكاني وغيره في الأحاديث الموضوعة. وكذلك من الأحاديث الموضوعة عن هذا الشهر حديث: ((يكون صوت في صفر، ثم تتنازع القبائل في شهر ربيع، ثم العجب العجاب بين جمادي ورجب)).
عباد الله، إن بعض الناس من باب مخالفة أهل الجاهلية وتشاؤمهم بشهر صفر يؤرّخ ويقول: "شهر صفر الخير"، وهذا الفعل منه هو من باب مدافعة البدعة بالبدعة كما يقول العلامة ابن عثيمين رحمه الله؛ لأن هذا الشهر ليس شهر خير ولا شر، ولهذا أنكر بعض السلف على من إذا سمع البومة تنعق قال: خيرًا إن شاء الله، فلا يقال: خير ولا شر، بل هي تنعق كبقية الطيور.
عباد الله، إن هذا الشهر الذي يتشاءم به البعض قد حوى أحداثًا عظامًا وتواريخ جليلة، ففي هذا الشهر كانت أول غزوة غزاها رسول الله بنفسه، وهي غزوة الأبواء، حيث خرج يعترض عيرًا لقريش، لكنه لم يلق كيدًا، وفي مثل هذا الشهر كان فتح خيبر على يدي المصطفى ، وفي مثل هذا الشهر كانت الوقعة التي قتل فيها خبيب بن عدي رضي الله عن الجميع.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن ما عند الله إنما يجلب بعبادته، وأن المكاره والحوادث تدفع بالدعاء وبالطاعة، وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق: 2، 3].
طيرة الناس لا ترد قضـاء فاعذر الدهر لا تشُبه بِلَوم
أي يـوم تَخصه بسعـود الْمنايا ينزلن في كـل يوم
ليس يوم إلا وفيـه سعود ونُحوس تَجري لقوم وقوم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفارا.
|