وبعد: فاتقوا الله عباد الله، واقتدوا برسول الله صلى وسلّم عليه مولاه، فبالتقوى والاقتداء تصِلوا الأرض بالسماء، وتجنوا الصفاءَ والوفاء والإخاء، ألا فاتقوا الله عباد الله، واقتدوا برسول الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد: 28].
ثم اعلموا ـ معاشر المؤمنين ـ أن الأمة الإسلاميّة اليوم تواجه خِصامًا بعنف وتآمرًا بحِقد وحربًا بجبروت، يقودها قومٌ لئام، أماطت عنهم اللثام الأحداثُ والوقائع والأيام، يجرّون الضغائن، ويحملون مسمومَ الدّفائن، ملؤوا الدنيا عدوانًا، وأشعلوها نيرانا، كلّ ذلك تحت شعار تحيق السلام والحرية المزعومة، وأنى لأفّاك أثيم تحقيق سلام دائم أو سكونٍ دائب؟! وما تسمعون وتشاهدون من اتفاقيات ومعاهدات للسلام ما هي إلا أحداثٌ تُفتعَل وأدوارٌ تُمثَّل وإفكٌ وافتراء واتِّهام وادِّعاء لسفك الدماء وقتل الأبرياء.
إن الإجرام الإسرائيلي والحقد النصراني سيظل في غطرسته وغرورِه واستبداده وفجورِه، وستهيَّأ له الأجواء ويفسح أمامه المجال لارتكاب مزيدٍ من الهدم والتشريد والتقتيل ليكون ذلك خيرَ شاهد على الحقد الدفين والهمجيةِ العمياء، وليتبين للناس أجمعين حقيقةُ ما يزعمون من نشر الحرية والسلام والأمن والأمان بين العالمين.
فعين العدل والحرية والسلام عندهم أن يشرّد المسلمون من ديارهم وترمّل نساؤهم وتيتّمَ ذراريهم وأن لا ينعموا بخيراتهم التي هم يحسدونهم عليها، ولقد صدق الله إذا يقول: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ [البقرة: 10]، وقال: أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ [النساء: 54]، فالحسد والبغض والكره أول دافع من دوافع الإبادة للمسلمين.
ولكن إخوتي في الله، حتى إذا ما بلغ السيل زُباه والكيدُ مداه والظلم منتهاه هنالك يأتي نصر الله لمن اتقاه ووالاه، فالله سبحانه يمهل ولا يهمل، حتى إذا ما أخذ الظالم أخذه أخذ عزيز مقتدر، إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج: 12].
لقد نسي أو تناسى الظالم المستبدّ أن الظلم لا يدوم ولا يطول، بل سيَضمحلُ ويزول، وعندها سيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون. ولعل الناظر المتأمل في الذين التحَفوا بالأمن والدَّعَة واستمتعوا بالثروة والسَّعة ممن سلف من الأمم الظالمة الكافرة ليرى بعين بصيرته كيف كانت عاقبتهم، لقد نزلت بهم الفواجع، وحلّت عليهم الصواعق وقرعتهم القوارِع، فهل تعي لهم حِسًّا أو تسمَعُ لهم ركزًا؟! عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته))، وقرأ : وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ ٱلْقُرَىٰ وَهِىَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود: 102] حديث متفق عليه.
أيّها الأكارم، إنّ ما يجري اليوم في فلسطين والأفغان وفي أرض العِراق ولبنان من تشريد وتقتيلٍ وتفجير وتدمير ما هو إلا عنوان للظّلم الجماعيّ على مرأى ومسمع من العالم كلّه، وإن ذلك ليدعونا أن نقفَ وقفات عبرة وعظَة وتأمل في حكمة الله سبحانه، إنه عليم حكيم.
ولعلّ أولى تلك الوقفات ـ عباد الله ـ أنّ ما أصاب الأمة اليوم من تخلّف وتقهقر وضعف وتأخّر ونزع المهابة من الأعداء والهوان على الناس إنما هو عاقبة الفسوق والعصيان والابتعاد عن حقيقة الإسلام والإيمان، فعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((يوشك أن تداعى عليكم الأممُ كما تداعى الأكلة إلى قصعتها))، فقال قائل: أوَمِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: ((بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله من صدور عدوّكم المهابةَ منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن))، فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: ((حبّ الدنيا وكراهية الموت)) أخرجه أبو داود، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله يقول: ((إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) أخرجه أبو داود.
إن هذا ـ عباد الله ـ ما أخبر به رسولنا في الحديث، وهو واقع في الأمة اليوم بلا جدل ولا مراء، فهذه البنوك والمساهمات والشركات تتعامل بالعينة والربا جهارا نهارا، أسمته بغير اسمه تحايلا على الله، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ [النساء: 142]، وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة: 9]، ناهيك عن انغماس الأمة في أوحال الرذيلة والتخلي عن الفضيلة إلا من رحم الله.
إن الأمة اليوم في عمومها أصبحت في حال يرثى لها، لقد غرقت في طمعِ يهدي إلى طبع وشهوات ومُتع ودنيا مؤثَرة وهوًى متَّبع، لقد تخلت الأجيال عن شعائر الدين، وفشت في المجتمعات قنوات الخبث والخنا، وتلاعب أهلُ الأهواء بالمرأة ليعيدوا لها حقوقها المزعومة، وتشبه بنو الإسلام بأحفاد القردة والخنازير، وشربت الخمور، واستبيحتِ الفروج، وحُكمت القوانين دون الرجوع إلى كتاب الله عز وجل، إلى غير ذلك مما انغمس فيه الناس من أنواع الانحراف وأصناف الهوى، ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم: 41]، وقال سبحانه: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران: 165].
بذلك كله ـ عباد الله ـ سلط الله على الأمة من يستبيحُ بيضتها ويُذِوقها مرّ العذاب، ولئن غيّرنا ما بأنفسنا ليغيِّرن الله علينا، إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد: 11].
الوقفة الأخرى هي أن نعلم أنه ما من محنة إلا وفي طياتها منحة، وأن لله في كل شيء حكمة، ففي المحن والفتن والحروب ابتلاء للأمة جمعاء؛ لتعود إلى دينها وشرعها ورشدها ولتعيَ الدروس والعبر، وفي ذلكم حكمةٌ من الله عز وجل، وفيها ـ أي: المحن والمصائب ـ تمحيص للذنوب وتكفير للخطايا والسيئات ورفع للدرجات، وليتخذ الله من الأمة شهداء، وليرى الله من يصبر ويحتسب على ما أصابه وحلّ به من فقد لحبيب أو أذى في نفسه أو في قريب، وفي ذلك يقول الله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمْ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران: 140-142].
وثالث تلك الوقفات: بشرى لنا ولأمةِ الإسلام أن طغيان الكفرة واستعلاءَهم في الأرض وتجبرهم وتكبرهم ما هو إلا إيذانٌ بقرب زوالهم وهلاكهم، يقول عز من قائل عليما عن اليهود من بني إسرائيل في سورة الإسراء: وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا [الإسراء: 4]، يقول ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: "يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب أنهم سيفسدون في الأرض مرتين، ويعلون علوا كبيرا، أي: يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا أي: أولى الإفسادتين، بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولاً [الإسراء: 5] أي: إذا أفسدتم المرة الأولى سلطنا عليكم جندا من خلقنا أولي بأس شديد، فتملّكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم وكان ذلك وعدا مفعولا".
ثم قال الله: ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا [الإسراء: 6، 7]، يخبر الله بني إسرائيل: إن أحسنتم فإنما تحسنون لأنفسكم، وحينها نحسن إليكم وننصرُكم، وإن أسأتم وتكبرتم واستكبرتم فعليها، ثم قال سبحانه: فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ أي: أفسدتم الكرة الثانية ومرة أخرى، عدنا إلى العذاب والتنكيل بكم، لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا [الإسراء: 7، 8]. وفي قوله تعالى: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا بيان لسنّة الله في بني إسرائيل؛ أنه سبحانه وتعالى سيحسن إليهم متى أحسنوا، وإن أساؤوا وعلوا وتكبروا سيعود إلى التنكيل بهم وتعذيبهم، ويسلّطُ عليهم من يُبيدهم ويُبيد خضراءهم، ولذلك قال: وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا.
ولقد عادوا من جديد إلى عتوهم وعنادهم ومكرهم، وليعودنّ الله عليهم كما وَعد، فسنته واقعة لا محالة، ووعده منجز بإذنه سبحانه، فاستبشروا ـ أمةَ الإسلام ـ بما ترونَ من تدمير وتشريد وتقتيلٍ تقترفه أيدي اليهود والنصارى والمشركين، ما هو إلا إيذان بزوالهم بإذن الله القوي.
فاللّهمّ إنا نسألك أن تعود عليهم بالهزيمة والتنكيل والتعذيب، فلقد عادوا إلى ما نهيتَهم عنه، ولقد عتوا وتكبروا واستكبروا في الأرض، فاللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، إنك على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنْ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ [الأنفال: 36، 3].
نفعني الله وإياكم بآيات ذكره، وبهدي نبيه ، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو التواب الرحيم.
|