أيها المؤمنون، صارت الأسهم حديثَ الناس في مجالسهم وأماكن سمرهم، وصار الواحد بينهم غريبًا، إن تركهم وحديثَهم مقَتوه، وإن شاركهم حديثهم أضاعَ عمره ووقتَه.
رجل باع بيته وسيارته، وآخر حمّل نفسه من الديون ما كان في غنى عنه، وثالث توقفت نبضات قلبه ففارَق الحياة، لهث خلف المال، وركض خلفَ السراب، في شرق البلاد وغربها، يركب الصعبَ والذلول، كأنه موكّل بفضاء الله يذرَعه.
والحرص في الرِّزق والأرزاق قد قسمَت بغـيٌ ألا إنّ بغيَ المرء يصرعـه
قال أبو الدرداء : اللهم إني أعوذ بك من تفرقة القلب، قيل له: وما تفرقة القلب؟ قال: أن يوضع لي في كل واد مال.
لقد سقت الدنيا أربابها سما، وأبدلتهم من أفراحهم بها هما، وأثابتهم على مدحهم لها ذما، وقطعت أكبادهم فماتوا عليها غما، فيا مشغولاً بها توقع خطبا ملما.
أيهـا المتعب جهدا نفسه يطلب الدنيا حريصا جاهدا
لا لك الدنيا ولا أنت لَها فاجعل الهمّين هَمـا واحدا
أيها المؤمنون، المال قوام الحياة، وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا [النساء: 5]، وهو زينة وفتنة وسبب التِهاء وطغيان، بذاك قد نطق القرآن، ولقد أخبر نبيكم عن فتنة أمته فقال: ((إن لكل أمة فتنةً، وفتنةُ أمتي المال)) أخرجه أحمد وغيره وصححه الألباني، وكان يتخَوّف مِن فتحِ الدّنيا على أمّته، يخافُ عليهم الافتتان بها، فعن عمرو بن عوفٍ أنّ النبيّ قال للأنصارِ لمّا جاءَه مالٌ من البَحرين: ((أبشِروا وأمِّلوا ما يسرُّكم، فوالله ما الفقرَ أخشى عليكم، ولكنّي أخشى أن تُبسَط عليكم الدّنيا كما بُسِطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلِككم كما أهلكتهم)) أخرجه البخاري، وفي صحيح مسلمٍ عن عبد الله بن عمرو أنّ النبيّ قال: ((إذا فُتِحت عليكم فارسُ والرّوم أيُّ قومٍ أنتم؟)) قال عبدُ الرحمن بن عوف: نقول كما أمَرنا الله، قال رسول الله : ((أوْ غير ذلك؛ تتنافسون، ثم تتحاسَدون، ثمّ تتدابَرون، ثمّ تتباغضون)).
هذه بعضُ آثارِ بسطِ الدّنيا، تنافسٌ ثمّ تحاسدٌ ثم تقاتل وسفكٌ للدّماء، ومِن آثارِها الانغماس في التّرَف ونسيانُ الله والدّار الآخرة والسّقوط في المعاصي والآثام، روي عنِ الحسنِ البصريّ أنّه قال: "رحِم الله أقوامًا كانتِ الدّنيا عندَهم وديعة، فأدَّوها إلى مَن ائتمنهم عليها، ثمّ راحوا خفافا".
طغى حبُّ الدنيا على قلوبِ بعضِ النّاس واستهوته خضرتها، يصرف لها همّه، عبدوها من دون الله، آثروها على متعةِ الآخرة، وفيهم يقولُ رسول الله : ((تعِسَ عبدُ الدّينار وعبدُ الدّرهم وعبدُ الخميصة، إن أعطِي رضِي، وإن لم يُعْط سخِط)) أخرجه البخاري.
قال الحسن: "إياكم وما شغَل من الدنيا، فالدنيا كثيرة الأشغال، لا يفتح رجل على نفسه بابَ شغل، إلا أوشك ذلك الباب أن يفتح عليه عشرة أبواب"، وعن بشر بن الحارث قال: "من سأل الله تعالى الدنيا فإنما يسأله طول الوقوف".
أيها الأحبة، وليس يخفى أن أودية الدنيا سحيقة وشعابَها كثيرة متفرقة، والخلاصُ من فتنتها والسمو عن زخرفها والنجاة من غرورها يحتاج إلى مجاهدة للنفس واستعانة بالعلي الأعلى، فحب الدنيا مغروس في النفوس، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا [الفجر: 20].
فإن قلت أيها الموفق: فما سبيل الخلاص من فتنة الدنيا المهلكة؟
فالجواب: إن أول طريق للخلاص هو التفكير الدائم في أمر الآخرة وإعطاؤها نفيسَ الوقتِ والهم والعمل، ففي القلب استعداد للانصراف للآخرة، كما أن فيه استعدادًا للانصراف للدنيا، وحين تزاحم إحداهما الأخرى فسيكون نصيب المغلوب ضئيلا، وليختر العاقل ما شاء: متاعَ الغرور أو النعيمَ الدائم والحبور، قال الحسن: "أدركت أقواما وصحبت طوائف، ما كانوا يفرحون بشيء من الدنيا أقبل، ولا يأسفون على شيء منها أدبر، ولهي كانت في عيونهم أهون من التراب".
وثمة أمر آخر يعين على الخلاص من فتنة الدنيا، ألا وهو القناعة بما رزق الله والكفافُ بالعيش، وفي صحيح مسلم قوله : ((قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنَّعه الله))، وروى مسلم أيضًا أن عبد الله بن عمرو بن العاص سأله رجل فقال: ألسنا من فقراء المهاجرين؟! فقال عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها؟ قال: نعم، قال: ألك مسكن تسكنه؟ قال: نعم، قال: فأنت من الأغنياء، قال: فإنّ لي خادمًا! قال: فأنت من الملوك.
والإسلام يصحّح المفهوم الخاطئ في الغنى، ويعتبر الأمن والعافية والقوتَ القليل يعدل الدنيا بأسرها، روي أن رسول الله قال: ((من أصبح منكم آمنا في سربه معافى في جسده عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني بطرقه.
هذا الحديث يصحّح النظرة السائدة، ويقطع تطلّع النفوس نحو التعلّق بالمال وجمع الحطام، ويدعو إلى القناعة والرضا والعفاف، بل هو سبيل إلى عدم التشاغل والتلهي بالدنيا، ومن لم يقنع بما آتاه الله فلن تقف به نفسه عند حدّ، ولن يملأ فاه إلا التراب، عن أنس بن مالك أن رسول الله قال: ((لو كان لابن آدم واديان من ذهب لأحب أن يكون له ثالث، ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)) متفق عليه.
الأمر الثالث في علاج فتنة المال: الدواء الناجع والحل النافع الذي ذكره الرحيم بأمته الشفيق عليهم، يقول : ((انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)) رواه مسلم. غيرَ أن الكثير من الناس يحاول جاهدًا أن يعيش عيشة الأغنياء المترفين، ولو كلفه ذلك كل شيء، فتجده يدخل في متاهات الديون والقروض والأقساط في سبيل أن تكون له سيارة فارهة أو منزل فاخر أو حاجات كمالية، وهو لا يملك إلا مرتَّبَه الشهري، بل ربما لا يبقى له من مرتبه شيء يعيش به هو وأبناؤه، فقسط لسيارته، وقسط للأثاث، وقسط لدين هنا أو هناك، ولو قنع بما آتاه الله ولم ينظر إلى من هو فوقه لكان أغنى الناس.
ومما يعين على الخلاص من فتنة المال أن تعلم حالَ الحبيب ، فقد عاش زاهدًا في الدنيا، حتى بعد أن فتحت الفتوح، أما بيته فتقول عائشة: كنت أنام في قبلة النبي وهو قائم يصلي من الليل، فإذا أراد أن يسجد غمزني، فقبضت رجلي، فإذا قام بسطتهما. متفق عليه. وأما طعامه فقد كان يمر الهلال والهلال وما يوقد في بيته نار، ولا يجد من رديء التمر ما يملأ بطنه. وأما لباسه فقد أخرجت عائشة رضي الله عنها للناس رداء وكساء غليظًا فقالت: توفي رسول الله في هذين.
|