أما بعد: أيها الناس، ففي الحديث الذي رواه أحمد وأبو داود وغيرهما عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال: وعظنا رسول الله موعظة وجلت منها القلوب وذرفت منها العيون، فقلنا: يا رسول الله، كأنها موعظة مودِّع فأوصنا، قال: ((أوصيكم بتقوى الله عز وجل، والسمع والطاعة وإن أمِّر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافًا كثيرًا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديّين من بعدي، تمسَّكوا بها وعضّوا عليها بالنّواجذ، وإياكم ومحدثاتِ الأمور، فإن كلَّ محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
فالرسول هنا يأمرنا ويحثّنا على التمسّك بسنته وسنة الخلفاء الراشدين بعده، وهم أبو بكر وعمرُ وعثمانُ وعلي، ونحن في هذا الأسبوع نستقبل عامًا إسلاميًا جديدًا، ابتدأ عقد سنواته من أجل مناسبة عظيمة في الإسلام، ألا وهي هجرة النبيّ التي ابتدأ بها تكوين الأمّة الإسلامية في بلد إسلامي مستقل يحكمه المسلمون بعد تلك الفترة التي عاشها الرسول وأصحابه رضوان الله عليهم في مكة، فعانوا فيها وقاسوا أشد أنواع الاضطهاد والبلاء والامتحان؛ من ضرب وتعذيب بصنوف العذاب وجوع وسخرية واستهزاء.
فهذا خباب بن الأرت رضي الله عنه ـ كما في صحيح البخاري وغيره ـ يأتي للرسول في ظل الكعبة فيقول: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟! ألا تستنصر لنا؟! ـ وهذا بسبب ما يلاقونه من صنوف العذاب ـ، فيقول له الرسول : ((إنه كان فيمن كان قبلكم يؤتى بالرجل فيوضع المنشار في مفرق رأسه فينصف نصفين، ويؤتى بالرجل فيمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه، ما يصدُّه ذلك عن دينه)) أو كما قال .
وقد كان بلال رضي الله عنه يوضع على صدره الحجرُ الكبير في الرمضاء في شدة الحرّ، ويقال له: اكفر بمحمّد، فما يزيد رضي الله عنه على أن يقول: أحد أحد.
وحاصرت قريش رسول الله وبني هاشم في الشّعب مدة طويلة، أصابهم في أثنائها مجاعة شديدة، أكلوا فيها ما لا يمكن أكله، وهم مع ذلك صابرون على ما من أجله امتحنوا، إلى أن جاء نصر الله وأذن الرسول لأصحابه بالهجرة للمدينة، وقريش تحاول منعهم من الهجرة، حتى إنها همّت بأمر عظيم ومكيدة خطيرة، ألا وهي أن يجتمع من كل قبيلة شاب من الشباب فيهجموا على رسول الله في بيته فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، ولا يدرى من قتله، فتعجز بنو هاشم عن مقاتلة تلك القبائل جميعها؛ كما قال تعالى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ، فأطلع الله نبيه على الذي أرادت قريش، فبات عليّ رضي الله عنه على فراش رسول الله ، وخرج النبي حتى لحق بالغار، وبات المشركون يحرسون عليًا يحسبونه النبيّ ، فلما أصبحوا ثاروا إليه، فلما رأوا عليًا ردّ الله تعالى مكرهم، فقالوا: أين صاحبك هذا؟! قال: لا أدري، فاقتصوا أثره، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم، فصعدوا في الجبل فمرّوا بالغار فرأوا على بابه نسجَ العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ومعه أبو بكر ثلاث ليال وقريش جادّة في البحث عنهم، ويمرون بالغار فيصرفهم الله عز وجل عن نبيّه وصاحبه رضي الله عنه، حتى إن أبا بكر رضي الله عنه يقول: يا رسول الله، لو نظر أحدهم إلى موضع قدمه لأبصرنا، فيقول له : ((لا تحزن إنّ الله معنا، يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟!)).
ثم بعدها هاجر إلى المدينة تلك الهجرة التي أصبحت فيصلاً بين الحق والباطل، وأصبح المسلمون بها أعزةً بعد الذلة، وأقوياء بعد الضعف، حتى أعلا الله كلمته ونصر عبده وجنده.
أيها الإخوة، إن التاريخ السنوي لم يكن معمولاً به في أول الإسلام، حتى كانت خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ففي السنة الثالثة أو الرابعة من خلافته رضي الله عنه كتب إليه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه يقول له: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ، فجمع عمر الصحابة رضي الله عنهم فاستشارهم، فيقال: إن بعضهم قال: أرِّخوا كما تؤرّخ الفرس بملوكها، كلما هلك ملِك أرخوا بولاية من بعده، فكره الصحابة ذلك، فقال بعضهم: أرّخوا بتاريخ الروم، فكرهوا ذلك أيضًا، فقال بعضهم: أرّخوا من مولد النبي ، وقال آخرون: من مبعثه، وقال آخرون: من مهاجره، فقال عمر: الهجرة فرَّقت بين الحق والباطل، فأرِّخوا بها، فأرَّخوا من الهجرة، واتفقوا على ذلك. ثم تشاوروا من أيِّ شهر يكون ابتداء السنة؟ فقال بعضهم: من رمضان لأنه الشهر الذي أنزل فيه القرآن، وقال بعضهم: من ربيع الأول لأنه الشهر الذي قدم فيه النبي المدينة مهاجرًا، واختار عمر وعثمان وعلي أن يكون من المحرم لأنه شهر حرام يلي ذا الحجة الذي يؤدّي فيه المسلمون حجهم الذي به تمام أركان الإسلام والذي كانت فيه بيعة الأنصار للنبي والعزيمة على الهجرة، فكان ابتداء السنة الإسلامية الهجرية من الشهر المحرّم. ووجب على المسلمين الإذعانُ لهذا الأمر لما مرّ معنا من قوله : ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي)).
جعلني الله وإياكم من المتمسّكين بشرعه، المتَّبعين لسنة نبيِّه وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
|