أما بعد: أيها المؤمنون، اتقوا الله تعالى وتوبوا إليه قبل أن تصبح سيئاتكم سببا لتسلّط أعدائكم عليكم، وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير.
أيها الإخوة الكرام، لقد سقط العراق في أيدي النصارى واليهود، سقط العراق تحت ذهول المسلمين بهذا السقوط المروّع الذي لم يشهد التاريخ الحديث سقوطا مثله، سقط العراق وبسقوطه تبدأ أوّل خطوة نحو مشروع تقسيم المنطقة خاصة والعالم العربي عامة للإمعان في تضعيفنا، ورغم هذا كله فإنّ الحقيقة التي نستيقظ عليها اليوم كعرب ومسلمين ليس سقوط صدام المطار أو المدينة أو النظام، إننا نتجرع بمرارة الإحباط واليأس وخيبة الأمل في ذاتنا، في كل ما كان يظهر لنا أننا قد قمنا بشيء ما الحقيقة التي نراها اليوم أن أمريكا انتصرت على ضعفنا، فلولا هذا الضعف الكامن في مختلف مناحي شؤوننا لما استطاعت قَِوى التجبر أن تهزمنا في عقر دارنا، ولن يستطيع أحد أن يجزم أن المسلسل الرهيب من الهزائم سيتوقف عند أسوار بغداد، فالقائمة مفتوحة، وانتكاسات ستكون أكبر مما نتوقع ما دمنا نسير بخلافاتنا التافهة وصراعاتنا الحقيرة وحروبنا القذرة فيما بيننا.
أيها المسلمون، إن أمتنا أمة حية باقية ما بقيت الحياة، ولن تزول بزوال نظام أو دولة أو مجموعة أفراد، وإن بدا للناظر اليوم أن الأمة تئنُّ اليوم تحت جراحها، فلقد مرت بمراحل أشد مرارة وأحلك ظلمة، واستطاعت أن تخرج منها منتصرة غالبة، فهذا رسول الله يوم أحد وقد استشهد من أصحابه سبعون رجلا، وكثر في من بقي الجراح والآلام، حتى باتوا وقد دب الوهن في نفوس بعضهم، فأنزل قوله سبحانه وتعالى: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: 139، 140]. وأخرج الطبري من طريق ابن المبارك عن يونس عن الزهري قال: "كثر في أصحاب محمد القتل والجراح، حتى خلص إلى كل امرئ منهم اليأس، فأنزل الله تعالى القرآن، فآسى فيه المؤمنين بأحسن ما آسى به قوما من المسلمين كانوا قبلهم من الأمم الماضية، فقال: وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا إلى قوله تعالى: لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ [آل عمران: 154]".
وهكذا ما زالت الأمة في تاريخها بين مد وجزر، ولا زال التاريخ يسجل لها انتصارات ونكبات، ولو تصفحنا كتب السير والتاريخ لوجدنا عجبا عجابا، فبعد غزوة أحد وما حدث فيها جاءت غزوة الخندق التي حوصر المسلمون فيها من كل جهة، حتى عظم الكرب والبلاء، فقال جل وعلا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا [الأحزاب: 9-11]، فجاء نصر الله تعالى، فهزم الكفار دون قتال.
ثم تلت أحداث وأحداث حتى فجع المسلمون بموت رسول الله ، فامتحِنَت الأمة مرة أخرى بأن ارتد بعض العرب، ومنع بعضهم الزكاة، وامتنع بعضهم عن الصلاة، وهكذا حتى حوصر الإسلام في مكة والمدينة فقط، فتأهب أبو بكر حتى أقر الله أعين المسلمين بعودة الإسلام إلى كامل جزيرة العرب.
ثم مرت السنوات فامتحنت الأمة في مقتل أمير المؤمنين عمر ، ثم امتحنت في مقتل الخليفة عثمان وما حدث بعدها من قتال بين المسلمين في صِفِّين وموقعة الجمل.
ثم توالت المحن والابتلاءات حتى حلت محنة التتار، وما أدراك ما محنة التتار؟! محنة قتل فيها ما لا يحصى من المسلمين، فقيض الله لهذه الأمة من يعيد لها عزها ومجدها، فقام قطز ـ رحمه الله ـ في ملحمة عين جالوت، فكسر شوكة التتار وهزمهم، بل أعجب من ذلك فقد أصبح أعداء الأمس حماة للإسلام بعد دخولهم فيه.
ثم جاءت محنة القدس، فقيض الله صلاح الدين الأيوبي فحرر القدس. ثم مرضت الخلافة العثمانية وتم الاعتداء عليها، وقسمت تركة الرجل المريض، فاستعمرت أغلب البلدان الإسلامية إن لم نقل كلها، وبعد مرور سنوات طويلة تحررت هذه البلدان بحمد الله ومنه وفضله، وها نحن اليوم نعيش في بلداننا مستقلين أحرارا.
فأبشروا فإننا أمة لا ولن تموت، وإن بدا للناظر أنها تحتضر، وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران: 139].
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|