أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى حق التقوى، واستمسكوا بالعروة الوثقى، فخير الناس من آمن واتقى، وشر الناس من في الضلالة رضي وبقى، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون.
أيها المسلمون، لا زلنا نتكلم عن حملة التنصير في بلادنا التي أخذت أبعادا خطيرة جدا، حيث يعملون على التشكيك والتضليل من أجل تحقيق أهدافهم الخبيثة، ولما وصل الأمر إلى حد لا يمكن معه السكوت كان من الواجب المحتَّم أن نعرف دين النصارى، ونعرف أقوال العلماء في النصرانية، ونعرف مصادرها ومراجعها، وأنواع عقائدها، وأن نرد شبههم التي أزكمت الأنوف وأصمّت الآذان.
أيها الإخوة الكرام، قد يتساءل البعض عن سبب تركيز المبشرين النصارى في حملتهم على مناطق القبائل أكثر من غيرها، وهذا الأمر مع قليل من التدبر والتفكر يستطيع الحاذق أن يعرف الأسباب، والتي من أهمها أن منطقة القبائل كانت منذ دخل أهلها الإسلام قلعة من قلاع الدين وصرحا من صروح الإسلام، بل إن الناظر لتاريخ المنطقة يرى أنها منبر للعلم ومنارة للعلوم، وكثير من العلماء كابن رشد وأبي حامد الغزالي وغيرهم من العلماء المعروفين تلقوا تعليمهم في تلك المنطقة، والمبشرون ركزوا حملاتهم في تلك المنطقة ليهدموا ذلك الصرح، ومتى هدم الحصن سهل على العدو غزو البلد.
ومن الأسباب أيضا أنك لو نظرت إلى تاريخ الجزائر إبان الاستعمار فستجد أن أكثر زعماء الثورة الذين أذاقوا فرنسا مرارة الهزائم المتوالية حتى اندحرت من بلادنا، أغلب هؤلاء الثوار كانوا من منطقة القبائل، فالمقراني ونسومر وسي الحواس وعميروش ومحند أُولْحَاج وسعيد عبيد وصالح بو بنيدر وعبان رمضان، مرورا بشعباني والحاج لخضر وغيرهم كثير جدا ممن يضيق المقام بذكرهم، ولن ننسى أعضاء جمعية علماء المسلمين وعلى رأسها عبد الحمد ابن باديس رحمهم الله جميعا، والعدو يعلم أنّ منطقة كهذه لو استطاع أن يقتحمها سهل عليه غيرها، ومنطقة تلد مثل هؤلاء لا بد أن تهاجم أولا. نشرت إحدى الصحف العربية مقالا بعنوان: "الجزائر أحفاد طارق بن زياد في قبضة التنصير".
ومن الأسباب أيضا تلك الهوة التي لا زال الغرب يوسّعها بين العرب والقبائل، وقد استطاع الغرب تحقيق هذا الغرض بين شباب اليوم، بينما فشل فشلا ذريعا مع الآباء والأجداد، فمن شباب اليوم من أهل القبائل من لا يعرف عن العربية والإسلام سوى الاسم، مما مهّد للنصارى الطريق نحو إيجاد جو ملائم للتعشيش والتبييض والتفريخ في تلك المنطقة العزيزة على كل جزائري.
أيها الإخوة الكرام، لا يمكن فهم حركة التنصير القائمة اليوم في الجزائر إلا بالرجوع إلى الوراء؛ لأن الحركة ليست وليدة اليوم، وهاكم تاريخ التنصير في الجزائر وما حولها:
يعد "رامول" أحد أساطين التنصير في الجزائر، وقد ساعده على ذلك صلاته القوية مع الملوك والأمراء النصارى، بالإضافة إلى تمكنه من اللغة العربية التي قضى تسع سنوات في دراستها حتى أجادها، وقد كان نصرانيًا صليبيًا، فهو من النصارى الإسبان الذين كانت قلوبهم مفعمة بكراهية المسلمين، وكانت له أحلام توسعية ومواهب في محاربة الإسلام وتنصير المسلمين، فمرة يضع الخطط لاحتلال بلاد الشام وتنصير أهلها، ومرة يكتب المصنفات للطعن في الإسلام، حتى قيل: إنها بلغت أربعة آلاف مصنف، ومرة يشرف على تعليم تلامذته في الكلية التي أنشأها لتعليم الرهبان اللغة العربية حتى يسهل عليهم تنصير المسلمين، بل بلغ حرصه على تنصير المسلمين درجة بَيعِهِ لكثير من ممتلكاته لتمويل حركة التنصير، ولما رأى أن كل جهوده هذه لم تثمر شيئًا قرر القدوم بنفسه إلى بلاد المسلمين، فقام بثلاث زيارات لإفريقية، الأولى كانت إلى مدينة تونس سنة 1292، ودامت بضعة أشهر، وانتهت بطرده بعد انكشاف أمره، وقد نجا بأعجوبة من القتل، وكانت زيارته الثانية إلى الجزائر وبالضبط إلى مدينة بجاية سنة 1307، وانتهت الزيارة أيضًا بسجنه وطرده بعد ثوران العامة عليه، ولكنه عاود الكرة مرة أخرى سنة 1315، وكانت الزيارة أيضًا إلى بجاية، وبلغ من تعصبه وحمقه درجة الطعن في الإسلام وفي نبي الإسلام من فوق منبر مسجد بجاية، فثارت ثائرة الناس وقتلوه رجمًا بالحجارة، وقد فعل ذلك عمدًا لكي يقتل فيكون شهيدًا! وحقق أمنيته في الموت ولكن لم يحقق نيته في تنصير مسلمي بجاية. وفي سنة 1219 أرسل الراهب "فرانسيس" خمس بعثات تنصيرية، واحدة منها إلى المغرب الأقصى، وقامت بالطعن في الإسلام ودعوة المسلمين علنًا للنصرانية، فأمر الخليفة الموحدي بإعدامهم جميعًا بتاريخ 16 يناير 1220.
أما البعثة الأخرى التي أرسلها إلى إفريقية فقامت أيضًا بالإساءة للإسلام والمسلمين مما أثار المسلمين عليهم فاضطر النصارى الأوربيين الذين كانوا يقيمون في المنطقة إلى إجبارهم على مغادرة البلاد، خوفًا على مصالحهم مع المسلمين. وفي سنة 1388جاءت بعثة أخرى لتنصير أهل إفريقية، وكان ضمن البعثة عالم نصراني متبحر في دارسة النصرانية، هو الراهب "تورميدا"، وبمجرد وصول هذا الداعية النصراني إلى أرض تونس واتصاله بمسلميها شرح الله صدره للإسلام، وسمى نفسه: عبد الله، واحتضنه المسلمون واشتغل في ترجمة ما يَرِدُ إلى السلطان أبي العباس أحمد المنتصر الثاني، فسمي بعبد الله الترجمان، وقد تفقه في دين الله وحسن إسلامه. كان إسلام عبد الله الترجمان ضربة موجعة لحركة التنصير في المغرب.
|