أما بعد: أيها الإخوة الكرام، بعث الله عبده ورسوله وكلمته المسيح ابن مريم، فجدد للنصارى الدين بعدما حُرّف، وبين لهم معالمه ودعاهم إلى عبادة الله وحده والتبري من تلك الآراء الباطلة، فعاداه اليهود وكذبوه، ورموه وأمه بالعظائم، وراموا قتله فنجاه الله منهم ورفعه إليه، فلم يصلوا إليه بسوء، وأقام الله تعالى للمسيح أنصارًا دعوا إلى دينه وشريعته، حتى ظهر دينه على من خالفه، ودخل فيه الملوك، وانتشرت دعوته وبقي الأمر على الهدى بعده نحو ثلاثمائة سنة، ثم أخذ دين المسيح في التبديل والتغيير، حتى تناسخ واضمحل ولم يبق بأيدي النصارى منه شيء، بل ركّبوا دينًا بين المسيحية ودين الفلاسفة عباد الأصنام، وراموا بذلك أن يتلطفوا للأمم حتى يُدخلوهم في النصرانية، ومع هذا التغيير الذي حصل في دين المسيح الصحيح الذي أنزله الله بقي مع أمة النصارى بقايا من دين المسيح، كالختان والاغتسال من الجنابة وتعظيم السبت وتحريم الخنزير وتحريم ما حرمته التوراة، ثم تناسخت الشريعة إلى أن استحلوا الخنزير وأحلوا السبت وعوضوا عنه يوم الأحد، وتركوا الختان والاغتسال، وكان المسيح يصلي إلى بيت المقدس فصلوا هم إلى المشرق، ولم يعظم المسيح عليه السلام صليبًا قط، فعظموا هم الصليب وعبدوه، فغير بذلك النصارى دينهم وبدلوه كليا، وأدخلوا في معتقداته أشياء وأمورا فاسدة، وألزموا كل نصراني أن يعتقدها، ومن ذلك أن الله نزل من سبع سماوات ودخل في فرج امرأة، وأقام هناك تسعة أشهر يتخبط بين البول والدم والأذى، ويتقلب بين الرحم والبطن، ثم خرج من حيث دخل رضيعًا صغيرًا يمص الثدي، ولُفّ في القماط وأودع السرير يبكي، ويجوع ويعطش ويبول ويتغوط، ويُحمل على الأيدي وختن، ثم صار إلى أن لطمت اليهود خديه وربطوا يديه وبصقوا في وجهه، وصفعوا قفاه وصلبوه وألبسوه إكليلاً من الشوك، وسمّروا يديه ورجليه، وجرّعوه أعظم الآلام، هذا هو الإله الذي يعبده النصارى. تعالى عما يقوله النصارى الضالون علوًا كبيرا.
ولعمر الله، إن هذه مسبة لله سبحانه وتعالى ما سبه أحد من البشر قبلهم ولا بعدهم، تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدًّا. روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله : ((قال الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذّبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد، وأما تكذيبه إيّاي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته)). قال عمر بن الخطاب في النصارى: (أهينوهم ولا تظلموهم، فلقد سبوا الله عز وجل مسبة ما سبه إياها أحد من البشر).
أيها الإخوة الأفاضل، وأما اعتقادهم في الأنبياء فإنهم يعتقدون أن أرواح الأنبياء كانت في الجحيم في سجن إبليس من عهد آدم إلى زمن المسيح، فكان إبراهيم وموسى ونوح وصالح وهود معذبين مسجونين في النار، بسبب خطيئة آدم عليه السلام وأكله من الشجرة، وكان كلما مات واحد من بني آدم أخذه إبليس وسجنه في النار بذنب أبيه.
ومن المتناقضات أن النصارى أنفسهم متفرقون في اعتقاداتهم وليسوا على دين واحد، فلو سألت أهل البيت الواحد عن ربهم لأجابك الرجل بجواب، وامرأته بجواب، وابنه بجواب، والخادم بجواب، فما ظنك بمن في عصرنا هذا وهم نخالة الماضين وزبالة الغابرين ونفاية المتحيرين؟!
أيها الإخوة الكرام، لا نقاش بأن هذه العقول بهذه التصورات الحقيرة والاعتقادات الباطلة غير مؤهلة لكي تقود نفسها فضلاً عن أن تقود غيرها، وما نكد البشرية وشقاؤها اليوم إلا لتغلب أمثال هذه العقول على الأمور لسبب أو لآخر، نعم إذا غاب الإسلام الحقيقي عن الساحة فلا عجب ولا غرابة أن يحل محله نفايات الأذهان وخرافات العقول وزبالات الأفكار، إذا تخلى المسلمون عن دورهم في نشر العقيدة الصحيحة الصافية في كل الأرض فمن الطبيعي أن يحل محله العقائد الباطلة، إلى أن يقيض الله لهذه الأمة من يعيد لها مكانتها وقيادتها للبشرية، وهذا حاصل بإذن الله، فإن المستقبل لهذا الدين والمستقبل للإسلام، كما أخبرنا بذلك الصادق المصدوق في غير ما حديث: ((ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز وذل ذليل، عزًا يعز الله به الإسلام وأهله، وذلاً يذل الله به الكفر وأهله))، وفي صحيح مسلم يقول : ((إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها)).
قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة: 33]. تبشرنا هذه الآية بأن المستقبل للإسلام بسيطرته وظهوره وحكمه على الأديان كلها، وقد يظن بعض الناس أن ذلك قد تحقق في عهده وعهد خلفائه الراشدين والملوك الصالحين، وليس الأمر كذلك؛ فالذي تحقق إنما هو جزء من هذا الوعد الصادق، كما أشار إلى ذلك بقوله فيما رواه مسلم في صحيحه: ((لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى))، فقالت عائشة: يا رسول الله، إن كنت لأظن حين أنزل الله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ أن ذلك تامًا، فقال : ((إنه سيكون من ذلك ما شاء الله)). فالجولة الأخيرة ستكون للإسلام وأهله بإذن الله عز وجل.
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة: 17].
|