أما بعد: عباد الله، اتقوا الله تعالى حق تقاته، والزموا طاعته ومرضاته، واعملوا بما نزل على نبيكم من أحكامه وآياته، وإياكم والذنوب فإنها شؤم على العبد في الدنيا وبعد مماته، يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا [النبأ: 40].
أيها المسلمون، بالأمس القريب استقبلنا عاما هجريا جديدا، بعدما أودعنا عاما آخر في رفوف الماضي بما حمله هذا الماضي من آمال وآلام، وما حواه من بر وإحسان، أو ما حمّلناه من آثام وعصيان، يأتي يوم القيامة وقد حملناه ما حملناه ليكون شاهدا لنا أو علينا، شاهدا لنا بالطاعات أو شاهدا علينا بالمعاصي والسيئات، وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ هَذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ [الجاثية: 28-31].
إن توالي الأعوام والدهور يذكر الناس بما هم مقبلون عليه من موت ونشور، وهو موعظة لمن أعلى المساكن والقصور، بأن موعده قد دنا ليسكن اللحود والقبور، ثم ليخرج منها إلى جنات وحور أو إلى نار تلظى وتبور.
أيها الإخوة الكرام، جرت عادة الكثير منا أن يخرج زكاة ماله في بداية السنة الهجرية، وتحديدا يوم عاشوراء، وهذا الأمر فيه نظر؛ لأن الشرع لم يوجب إخراجَ الزكاة في يوم عاشوراء، ولكن أوجبها عند تمام الحول على النصاب، ولا يهمّ في أي شهر بدأ العدّ على الحول، والسنة المعتبرة شرعا هي السنة الهجرية أي: 354 يوما، فلا يجوز تقديمها إلاّ لضرورة أو لحاجة ماسة، كما أن مؤخّرها يعاقب على التأخير، شأنها شأن الصلاة، فإن لها وقتًا معلوما يجب أن تؤدّى فيه.
أيها الإخوة الأفاضل، اعلموا ـ وفقني الله وإياكم ـ أنه لا بد من معرفة تفاصيل أحكام الزكاة وشروطها، وبيان من تجب عليه ومن تجب له وما تجب فيه من الأموال، فالزكاة أحد أركان الإسلام ومبانيه العظام، كما تظاهرت بذلك دلالة الكتاب والسنة، وقد ذكرت فريضة الزكاة في القرآن الكريم ثلاثين مرة، واجتمع ذكرها مع الصلاة في سبعة وعشرين موضعًا، مما يدل على عظم قدرها وفخامة أمرها، بل جعلها الله في مواضع من كتابه من لوازم الإيمان، وجعل تركها من خصال المشركين المكذّبين بيوم الدين, حتى قال صديق هذه الأمة أبو بكر رضي الله عنه: (لأقاتلنّ من فرّق بين الصلاة والزكاة)، قال الله تعالى: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ، وقال سبحانه: فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ، وقال النبي : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة)) الحديث، وقد أجمع المسلمون على فرضيتها، وأنها الركن الثالث من أركان الإسلام, وعلى كفر من جحد وجوبها, وقِتال مَن منع إخراجها، وقيل بكفر من لم يخرجها تهاونًا قياسا على الصلاة، لمن حكم على تارك الصلاة تهاونًا.
وعلى العموم فإن تارك إخراجها تهاونًا هو في شرّ عظيم، ومن أداها معتقدًا وجوبها راجيًا ثوابها فليبْشر بالخير الكثير والخلف العاجل والبركة، قال الله تعالى: وَمَا أَنفَقْتُمْ مّن شَىْء فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وقال تعالى: مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلّ سُنبُلَةٍ مّاْئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ.
فرضت الزكاة في السنة الثانية للهجرة النبوية, وقيل: إنها فرضت والنبيّ في مكة، ومما يدل على ذلك أنها ذكرت في السور التي نزلت بمكة كسورة البينة وغيرها، وجمعَ بعضهم بين القولين فقال: "فرضت الزكاة بمكة، لكن تأخّر العمل بها إلى العهد المدني". وقد بعث رسول الله السعاةَ لقبضها وجبايتها لإيصالها إلى مستحقيها, ومضت بذلك سنة الخلفاء الراشدين وعمل المسلمين.
أيها الإخوة الكرام، كلنا يعلم أن للزكاة سببًا وشرطًا، فالسبب هو بلوغ النصاب، وهو مقدار معيّن من المال، لا يتعدى في أيامنا هذه أحد عشر مليونا وثمانمائة وخمسة عشر ألف، فهل كل من ملك هذا النصيب وجب عليه إخراج الزكاة؟ الجواب: لا، فلا بدّ من تحقيق الشرط، وهو أن يحول الحول الهجري على المال، كل ذلك ليخرج المسلم ربع العشر من المال أي: 2.5 في المائة، مبلغ زهيد لا يضرّ أحدًا إخراجه.
أما نصاب الذهب فهو عشرون دينارا أو مثقالا، وهو الدينار الشرعي، ووزن كل دينار هو 72 حبة من الشعير المتوسّط، وهو مقدار 85 غراما، وقيل: 91.92 غراما، فعلى أن وزن النصاب هو 91.92 غراما فإن وزن الدينار هو 4.596 غراما، وأما على أن وزن النصاب 85 غراما فإن وزن الدينار هو 4.25 غراما.
وأما نصاب الفضة فهو 200 درهم شرعي، ووزن كل درهم 55 حبة من الشعير المتوسط، ووزنها مجتمعة هو 642 غرما تقريبا.
فإذا حال الحول على 20 دينارا فيجب فيها نصف دينار، وأما في الفضة فمن ملك 200 درهم شرعي وجب فيها 5 دراهم، أي: ما قيمته 1/40 من قيمة المال، أي: ما يعادل 2.5 في المائة، وكلما زاد المال أخذ منه مقدار ربع العشر، ودليله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((ليس فيما دون خمس أواق من الورق صدقة)).
وإن مما تجب به الزكاة عروض التجارة، وهي ما أعده الإنسان للبيع والاتجار به، من حيوان وعقار وأثاث ومتاع وأوان وغير ذلك، كلّ شيء عندك للتجارة فهو عروض تجارة، إذا حال عليه الحول فقوِّمه كم يساوي ثم أخرج ربعَ عشر قيمته.
فانظروا إلى تيسير الله على العباد، ثم انظروا إلى استكبار وعناد العباد.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|