أما بعد: اتقوا عباد الله، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
معاشر المؤمنين، إننا في أمس الحاجة إلى الذكرى والموعظة، والله جل جلاله يقول لحبيبه عليه الصلاة والسلام: وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا [النساء: 63].
فيا أخي الغالي رعاك الله، الإنسان قد يولد مرة واحدة وقد يولد مرتين؛ أما الميلاد الأول فهو يوم يخرج من ظلمات رحم أمه إلى نور الدنيا، وذلك ميلاد يشترك فيه كل الخلق المسلمون والكفار، والأبرار والفجار، بل والحيوانات أيضًا. أما الميلاد الثاني فهو يوم يخرج من ظلمات المعصية إلى نور الطاعة، وهذا الميلاد خاص بمن وفقه الله من البشر لطريق الهداية ومسلك الاستقامة، وقد صور الله عز وجل هذا الميلاد بقوله: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام: 122]. إنه ميلاد لا يتقيد بعمر، وهنيئًا لك إن لم يسبق الموت ميلادك. فعجِّل ـ أخي ـ قبل أن يعجَّل عليك.
ولدتك أمك يـا ابن آدم باكـيًا والناس حولك يضحكون سرورًا
فاعمل لنفسك أن تكون إذا بكوا في يوم موتك ضـاحكًا مسرورًا
إنه ميلاد ليس له سبب معين، ولكنه شيء يهزُ نفسك بأنك ما خلقت عبثًا ولن تترك سدى ولا هملاً، نعم هو هزةٌ فاستيقاظ من غفلة، فمحاسبةٌ للنفس، فدمعةٌ على الخد، فسجودٌ لله من ذلك العبد، فثبات. نسأل الله الثبات حتى يدخلنا ربنا برحمته جنة عرضها كعرض الأرض والسموات.
ولا يولد هذا الميلاد إلا من أخذ بالأسباب وقد تأتيه الأسباب، قد يكون كافرًا فيسلم، وقد يكون مسلمًا مبتعدًا عن الله فيعود إلى الله، ويكون مستقيمًا فيجدد الميلاد. فلا إله إلا الله، ما أفضلها من أيام تلك الأيام، يوم يتمرد الإنسان عن الانقياد للشيطان، يوم يرتبط الإنسان بالله الواحد الديان، يوم يذوق الإنسان حلاوة الإيمان، يوم تذرف بالدموع العينان، يوم يلهج بذكر الله اللسان، يوم تتنزه الأذنان عن سماع المعازف والألحان ومزمار الشيطان، وتستبدل بها كلام الواحد المنان، فعجل قبل أن يعجل عليك.
فيا أخي المسلم، يا من خلقك ربك فسواك، وهو الذي رزقك وكساك وأطعمك وسقاك، ومن كل خير سألته أعطاك، ومع ذلك عصيت وما شكرت وأذنبت وما استغفرت، تنتقل من معصية إلى معصية ومن ذنب إلى ذنب، كأنك ستُخلد في هذه الدنيا ولن تموت، تبارز الله بالمعاصي والذنوب، غافلاً ساهيًا عن علام الغيوب، فليت شعري متى تتوب؟! أتتوب عند الممات؟! وهل تظن يقبل منك ذلك في تلك اللحظات؟! استمع إلى من أنعم عليك وهو يتحدث عن أولئك الذين بارزوه بالذنوب والمعاصي ولم يخشوا يومًا يؤخذ فيه بالأقدام والنواصي، انظر ماذا يقول الله عنهم: حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ [المؤمنون: 99]، لماذا تتمنى الرجعة يا هذا؟ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ، فيقال له توبيخًا: كَلاَّ، نعم كلا فقد أمهلناك، كلا فقد تركناك فتماديت وما رجعت وما باليت، كلا فقد انتهى الوقت، كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون: 100].
فبادر ـ أخي ـ وعجِّل عجِّل ما دام الباب مفتوحا، نعم لا يزال باب التوبة مفتوحًا لك، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغِر))، ويقول: ((التائب من الذنب كمن لا ذنب له))، وأبشرك ببشارة الله لك ولكل المذنبين التائبين، اسمعها في قوله سبحانه: إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 70].
يـا معشر العاصيـن جودٌ واسعٌ عند الإلـه لمن يتوب ويندمـا
يـا أيها العبدُ الْمسـيء إلَى متَى تُفنِي زمانك فِي عسى ولربَّمَـا
بـادر إلى مولاك يـا مـن عُمره قد ضاع فِي عصيانه وتصرّمـا
واسـأله توفيقًا وعفـوا ثُم قـل يا رب بصرنِي وزل عنِّي العمى
نعم أخي، عجل ثم عجل قبل أن يعجَّل عليك، ولا تجعل للشيطان إليك سبيلاً، عجل قبل: أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ [الزمر: 56- 58].
عجّل ـ أخي ـ قبل أن يعجل عليك، فأيام عمرك قلائل ولحظات محسوبة وأنفاس معدودة، فلا تضيعها في غير طاعة الله. عجل ـ أخي ـ قبل أن يعجل عليك، فهذا ابن المنكدر لما حضرته الوفاة بكى، فقيل: ما يبكيك؟ فقال: "والله، ما أبكي لذنب أعلم أني أتيته، ولكن أخاف أني أتيت شيئًا حسبته هينًا وهو عند الله عظيم".
يا ليـت شعري كيـف أنـت إذا غسلت بالكـافور والسدر؟!
أو ليـت شعري كيـف أنت على نعش الضريح وظلمة القبْر؟!!
إني أدعوك ـ أخي ـ دعاء الصادق معك المحب لك إلى أن تنظر في نفسك، هل أنت تسير في طريق مستقيم، أم أنت كالذي سلك طريقًا فصده هواه وقرين السوء، كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى [الأنعام: 71].
فاسلك طريـق المتقيـن وظـن خيـرًا بالكريمْ
واذكر وقوفـك خائفًـا والناس في أمر عظيـمْ
إمـا إلَى دار الشقـاوة أو العـز المـقـيـمْ
فاغنم حياتـك واجتهد وتب إلى الرب الرحيمْ
قال بعض السلف: "لا تغتر بدار لا بد من الرحيل عنها، ولا تخرب دارًا لا بد من الخلود فيها".
دنا الرحيلُ فقلتُ اليوم: وا أسفاه كيفَ الرحيلُ وذنبي قد تقدَّمني
فيا قوم، يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر: 39، 40]. جعلني الله وإياكم من أهل الجنان، ومن الذين يدخلونها بسلام آمنين.
عبد الله، تصور نفسك يوم يقال لك وأنت مع أهلها: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: 70]. إن أهل الجنة تعرف في وجههم نضرة النعيم، إن أهل الجنة في جنات وعيون، إن أهل الجنة في شغل فاكهون، إن أهل الجنة يسقون من رحيقٍ مختوم، إن أهل الجنة فرحين بما آتاهم الله من فضله، إن أهل الجنة عندهم قاصرات الطرف أتراب، فعجِّل ـ أخي ـ عجل حتى تكون من أهلها ومن الذين ينعمون ويتلذذون بخيراتها.
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم ولحـوم طير نـاعم وسمـان
وفواكه شتَّى بِحسب مناهُم يا شبعةً كملت لذي الإيمـان
لحم وخَمر والنساء وفواكه والطيب مع روح ومع ريْحان
قال الله تعالى: فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد: 15]. فيا لها من لذة تلك اللذة، ويا له من نعيم ذلك النعيم لمن عجل قبل فوات الأوان.
وجنـات عدنٍ زخرفت ثم أزلفت لقوم على التقوى دوامًا تبتلوا
بِها كلُ ما تَهوى النفوس وتشتهي وقرةُ عين ليـس عنها تَحولُ
أخي رعاك الله، لقد حرَّك الداعي إلى دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية، وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية، وأسمع الله من كان حيًا، فهزّه السماع إلى منازل الأبرار، فما حطت به رحاله إلا بدار القرار، فكن بقلبك بل بكلِّك مع القوم الذين قال الله فيهم: وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ [الواقعة: 10، 11]. واحذر ـ أخي المسلم ـ أن تعرض عن ذكر الله؛ لأن الإعراض نكد في الدنيا وعذاب في الآخرة، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى [طه: 124-126]. فتصور ـ أخي ـ ذلك الأعمى وهو يسحب على وجهه في نارٍ حرها شديد وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم وشرابهم فيها الصديد، يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ [إبراهيم: 17]، وتذكر أخي: إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [غافر: 71، 72]، تذكر أخي: يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَ [الأحزاب: 66]، استمع إليهم: وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ [فاطر: 37]، قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون: 106- 108]، ينادون فانظر من ينادون: وَنَادَوْا يَا مَالِكُ، ومالك هو خازن النار، وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 77، 78].
فعجل ـ أخي ـ عجل قبل حلول الندم وزوال النعم ونزول النقم حيث لا ينفع الندم، فاستعد للسؤال وتهيأ للجدال، قال الله الكبير المتعال: يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [النحل: 111].
اللهم يا مصلح الصالحين، أصلح فساد قلوبنا، واستر في الدنيا والآخرة عيوبنا، واغفر بعفوك ورحمتك ذنوبنا، وارحم في موقف العرض عليك ذل مقامنا. وأكثروا من الاستغفار يغفر لكم.
|