أما بعد: فاتقوا الله يا عباد الله، وتأملوا في سيرة نبيكم محمد ، فإن هديه خيرُ الهدي، واتباعَه هو السبيل الوحيد الذي لا سبيل غيره إلى نعيم الدارين: الدنيا والآخرة.
عباد الله، لقد كانت هجرته معلمًا بارزًا وحدثًا هامًا في الإسلام، وكان تحولاً جذريًا في طرائق الدعوة وفي التعامل مع المعارضين لها، لقد كانت الهجرة مقدمة لنصر عظيم للإسلام وأهله، بلغ قبل نهاية المائة الأولى منها أكثر من ثلث الأرض.
ولأجل هذه المكانة للهجرة كان رأي عمر بن الخطاب رضي الله عنه سديدًا، إذ جعلها تاريخًا لهذه الأمة، تضبط به أحداثها، ويسجل فيه مجدها وعزها، ويكون شعارًا لها في كل حين، في العبادات والمعاملات والأحوال الشخصية وغير ذلك من الأمور.
ففي السنة السابع عشرة من الهجرة جمع عمر رضي الله عنه الصحابة، واستشارهم في وضع تاريخ يتعرفون به أمورَهم، فأشير عليه بالتأريخ بمبعث النبي وبموته وبهجرته، فاختار عمر الهجرة، فاتفقوا معه على ذلك، ثم استشارهم في أي شهر نبدأ؟ فقال بعضهم: من رمضان، وقال آخرون: من ربيع الأول، وقال بعضهم: من المحرم، فاختار المحرم وأجمعوا عليه؛ لأنه يلي ذا الحجة وهو الشهر الذي بايع فيه النبي الأنصار على الهجرة، وتلك المبايعة من مقدمات الهجرة، فكان أولى الشهور بالأولية شهر المحرم.
قال السهيلي رحمه الله في الروض الأنف: "وفي قوله سبحانه: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ [التوبة: 108] وقد علم أنه ليس أول الأيام كلها، ولا أضافه إلى شيء في اللفظ الظاهر، فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر، فيه من الفقه: صحة ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التاريخ، فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة، فوافق رأيهم هذا ظاهر التنزيل، وفهمنا الآن بفعلهم أن قوله سبحانه: مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أن ذلك اليوم هو أول أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن".
عباد الله، وإن مما يؤسف له أن لا يَقْدُرَ بعض المسلمين لهذا التاريخ قدره، وأن يستبدلوا به تاريخًا آخر، بأن يجعلوه معتمدًا في معاملاتهم كافة، وهذا خطر عظيم ربما غُفِلَ عنه. إن التاريخ الميلادي لا يمكن أن يحل محل التاريخ الهجري؛ لما بينهما من تباين يمس الدين والهوية.
إنَّ التاريخ الهجري تاريخ مرتبط بالدين وُضِع من أجله، فبالأشهر القمرية تربط أحوال الزكاة وآجال الديون والرهان وعدد الطلاق ومُدد الإحداد والإيلاء وغير ذلك؛ ولذا قال تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ [يونس: 5]. ومن حكمة ذلك أن الشهر القمري ظاهر للناس كافة، معلوم وقت دخوله ووقت خروجه، يعرفه المتعلم والأمي، والذي في الحاضرة بين الناس والذي في البادية مع ماشيته لوحده، وهذا من رحمة الله وتيسيره لعباده.
أما الميلادي فإنه مرتبط بدينين باطلين، أولهما وثنية الرومان، فإن الأشهر الغربية يناير وفبراير تمجيد للآلهة الأسطورية للرومان، ولاثنين من القادة المحبوبين الرومانيين، فيناير مأخوذ من (يانوس) إله الشمس، ومارس اسم إله الحرب، ومايو اسم إلَهَة الخصب، ويونيو اسم إلَهَة القمر، أما يوليو فهو اسم للقيصر كاليوس يوليوس، وكذا أغسطس اسم أحد القياصرة، والأشهر التي تحمل أسماء الآلهة المزعومة والقادة المحبوبين جعلوا أيامها تكتمل إلى واحد وثلاثين يومًا من باب التفاؤل، والأخرى تحمل ثلاثين يومًا لأنهم يتشاءمون من الأعداد الزوجية، أما أغسطس فإنه الشهر الثامن وكان ثلاثين يومًا، ولكنهم جعلوه واحدًا وثلاثين يومًا لكي لا يشعر (أغسطس) أنه أقل منزلة من يوليوس.
أما الأشهر الشرقية: كانون ونيسان وتموز فإنها كانت أشهر التقويم السرياني الذي اندثر قبل ثلاثة قرون تقريبًا، إلا أن أسماء الشهور بقيت وربطت بأسماء الشهور الغربية، ويحمل أحد هذه الأشهر وهو تموز اسم إله بابلي يموت ثم يعود، وأيلول معناه النوح؛ إذ ينوحون فيه على الإله الميِّت، أما نيسان فهو مستهل السنة الدينية المقدسة عند البابليين.
أما الدين الآخر الذي ارتبط به هذا التأريخ فهو النصرانية، فقد اعتمدوا التقويم الروماني بعد اجتماع للمجمع الكنسي أقر فيه الاعتماد عليه، ثم ربط بعد ذلك بميلاد المسيح عليه السلام، وذلك في القرن السادس أو الثامن من ميلاده، ومن هنا نعلم أن نسبة هذا التاريخ إلى ميلاد المسيح جاءت متأخرة جدًا عن ميلاده، كما أنها غير دقيقة، فإن بعض باحثيهم صرح بأن ميلاد المسيح كان قبل هذا التاريخ بأربع سنين على الأقل، ولما كانت السنة الشمسية ثلاثَمائة وخمسةً وستين يومًا وخمس ساعاتٍ وتسعًا وأربعين دقيقة، و56 من الألف من الثانية تقريبًا، كان هناك فرق سنوي، قدره إحدى عشرة دقيقة تقريبًا بين الحساب والواقع الفعلي، ومن هنا كان لا بد من التغيير، حتى يضبط ميعاد عيد الفصح الذي يشكل أحد المعالم الرئيسية في التقويم الكنسي، مما دعا بابا النصارى جريجوري الثالث عشر إلى إجراء تعديل، فقرر زيادة عشرة أيام في التاريخ، فعدل التاريخ في ذلك الوقت من الخامس من أكتوبر عام 1582م، حتى كان الخامس عشر منه. وقد أُقِر هذا الإصلاح بأمر بابوي، وسمي هذا التاريخ بعد تعديله بالتاريخ الجريجوري، وهو المعمول به الآن.
عباد الله، من هنا عرفنا أن هذا التقويمَ وضعي، غيرُ مبني على أساس كوني في تقسيم شهوره، بل إن القياصرة والبابوات تغير فيه حسب ما ترى، ولذا لما قصرت الأيام اختاروا فبراير مكانًا للنقص، فكان ثمانية وعشرين يومًا في السنوات البسيطة، بخلاف التقويم الإسلامي المربوط بظاهرة كونية يدركها كل الناس، قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنْ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة: 189].
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة... |