أما بعد: فإن الأيام والسنين تمر، والأحداث والخطوب تتوالى، وما تزال جراح المسلمين تنزف ومآسيهم تزداد، ولا يخفى على كل ذي بصرٍ تكالبُ الأعداء علينا واستشراءُ الوهنِ بين الكثيرين منا، لدرجة أنْ تجاوز طمع العدو بنا واحتقارُه لنا الخطوط الحمراء، وأضحى ذلك باديًا لجميع الناظرين، فكيف ـ يا ترى ـ سيكون عامنا الجديد؟ هل ستتواصل الهموم وتتجدد الأحزان وتزداد المخاوف، أم سيشهد عامنا هذا بُشرياتِ فرحٍ وسرور، فتقرّ أعين المؤمنين وتسرُّ نفوسهم؟
عباد الله، الحزن والفرح كالخوف والرجاء والحب والكره، شعوران طبيعيان لا ينتقصان من إيمان المسلم ما داما في حدودها الطبيعية، أي: ما دام الحزن لم يتحول إلى جزع أو يأس أو تسخط واعتراض على القضاء والقدر، ولم يتحول الفرح إلى بطر أو خيلاء أو كبر، بل تتأكد شرعيتها إن كان الحزن أو الفرح لله وفي الله وعلى محارم الله، وأنبياء الله وعباده الصالحون عَرَض عليهم هذان الشعوران، مِثْلهم في ذلك مِثْلُ عامة البشر من غير أن يَنتقص ذلك من منزلتهم ودرجتهم، ففي الفرح مثلاً قال الله تعالى: قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس: 58]، وقال سبحانه: فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ [الروم: 4، 5]، وفي الحزن قال جل وعلا عن نبيه وخليله المصطفى : قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ [الأنعام: 33]، وقال: إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40]، وقال عن بعض خيار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين: تَوَلَّوا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُوا مَا يُنفِقُونَ [التوبة: 92]، ونصوص الشرع من الكتاب والسنة كثيرة في هذا الأمر.
إن الفرح والحزن ـ معاشر المسلمين ـ ليسا ملازمين للخير والشر باعتبار علم الله تعالى وقدره، فقد يفرح الإنسان لأمرٍ ويكون شرًا له، وقد يحزن على أمر ويكون مآله خيرًا له؛ فهذا نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام حزن لفقد ابنه يوسف وكان مآل هذا الفقد خيرًا ليوسف بل لجميع بني يعقوب، وهذه أم موسى حزنت لذهاب ولدها وكان مآل ذلك خيرًا لموسى عليه السلام ورفعته وإنقاذ بني إسرائيل من فرعون وبطشه، وفي المقابل ذاك قارون فرح بما آتاه الله من مال وكنوز فكان مآله عندما طغى وتكبر أن خسف الله به وبداره الأرض.
والقاعدة ـ عباد الله ـ أن المسلم متى استقام على أمر الله سبحانه فإن أمره كلّه يكون خيرًا، وهذا ما نبه إليه رسول الله في قوله: ((عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له))؛ لأن المسلم مستسلم لأمر الله الشرعي، راضٍ بأمره القدري، مؤمن بأنه لا يكون أمر في الكون إلا بعلم الله وقدره، وأن هذا الكون وما يجري فيه لم يخلق عبثًا، بل لحكمة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
أيها المسلمون، يرقب العالم عامة وأهل العراق والمجاورون لهم خاصة حشود الصليبيين في المنطقة بقيادة أمريكا، وقد عزمت وصمّمت على اجتياح العراق، عملاً بالوصايا التوراتية ـ على حدِّ زعمهم ـ التي تنصّ على شرعية تدمير العراق حتى ينشف نهر الفرات بغضّ النظر عن هويّة من يحكمها حتى لو كان حزبًا كافرًا، مما يؤكّد أن دافعهم ديني بالدّرجة الأولى، ولا يمنع أن يتبعه أهداف اقتصادية واستعمارية.
إنه ومع كل تلك الاستعدادات التي ملأت الجو والبر والبحر ولا زالت تتدفّق على المنطقة وقد صنِّعت وفق آخر ما توصّلت إليه تقنيتهم المتطورة، فهي والله لن تخيفنا، إنما الذي يخيفنا ويهزمنا هي ذنوبنا وتقصيرنا وتركنا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والأخذ على أيدي السفهاء والانسياقُ خلف الكفار إعجابًا وتقليدًا، إن الله تعالى فوق الجميع، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وله جنود السماوات والأرض، وله ملكهما، وهو على كل شيء قدير.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد: 7-11].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|