أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
أيها الناس، هل رأيتم الحج وضخامته، ورأيتم الإيمان وتوهجه، ورأيتم الجموع الغفيرة كيف أتت تعظم الله وتكبِّره وتحمده؟! لقد كان منظر الحج شيئًا عجيبًا ومنظرًا مَهولاً، ابتهج به المؤمنون، وعزَّ به الموحِّدون، وشَرِق به المجرمون، وانبهر به الغافلون. فماذا يعني لكم الحج يا مسلمون؟!
لا أظنّ أن تلك المشاهد العظيمة تمضي بلا اتعاظ، أو أن ذلك العدد الضخم يمر بلا اعتبار. لقد حضرت تلك الجموع الغفيرة تجيب دعوة الله لها، وحضرت تعظّم الله، وحضرت تعلن توحيدها لله رب العالمين، وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ البَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران: 37].
مجمع عظيم يهتز له العالم، ويرجُف منه الأعداء، وينخلع منه اليهود والنصارى، فهل وعيتم ذلك؟ وهل أحسستم بعظمة هذا الدين، وعظمة أمته؟!
إن ثمة معاني في الحج ما ينبغي أن تخفى على ذوي العقول والبصائر.
فمن ذلك أن الحج مؤتمر إسلامي كبير، يدعو إلى وحدة الأمة وتضامنها، فالحجاج يجتمعون في صعيد واحد وفي مكان واحد، يعبدون الله، وهم من قبل قد اجتمعوا في صلاة واحدة وصاموا شهرًا واحدًا، وهم متراصون ومتقابلون، وكل تلك المظاهر الجماعية مؤذنة باجتماع هذه الأمة، وأنها لن تفلح إلا بالاجتماع والترابط. وفي ذلك تحذير من التنازع والتفرقة، وأنَّ المسلمين ما أُتوا إلا من تفرقهم وتمزقهم، وقد أفلح الأعداء حينما جعلوا من كلمتهم كلمات ومن دعوتهم دعوات ومن خلافتهم دويلات، وقال تعالى: وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال: 46].
ومن معاني الحج أنه تجديد للإيمان وإصلاح للنفس، ويعتري الناس ما يعتريهم من أدواء الفتن والشهوات، فالحج يعج بمظاهر التوحيد والعبادة، وكل ذلك ماحٍ للخطايا موفّر للحسنات، وفي الحديث: ((من حج فلم يرفُث ولم يفسُق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) أخرجاه.
ومن معاني الحج أنه صمود في زمن المهانة وشموخ في وقت الضعف، فالأمة يحاط بها في كل مكان، وتتهم في دينها، ويحمله الأتباع بضعف وانهزام، فيأتي الحج بتلك الجموع ليحيي معاني الصمود والشجاعة، وأن المسلمين يعزّون بعد ضعفهم، ويقوون بعد هزالهم، ويتجمعون بعد تفرقهم، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا [آل عمران: 103].
ومن معاني الحج أنه رسالة للعالم الكافر أن هذه الأمة لا تراهن على دينها، ولا تساوم على مبادئها، وأنها قوية بربها عزيزة بدينها. فيا لله! كم أخاف ذلك المجمع من كفار، وكم أرهب من أعداء، وكم أخرس من ألسن. إن أمتنا تعلن بذلك الحج تمسكها بدينها واستعصامها بقرآنها، وأنها لن تتخلى عنها، فذلك الدين حياتها وعنوان بقائها ومصدر عزها وظهورها، لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ [الأنبياء: 10].
فأهل الإيمان رغم ما يدب فيهم من ضعف وهوان إلا أنهم بدينهم يستعصمون، ولهم في عباداتهم ما يوقظهم ويحيي نفوسهم؛ كالحج بما فيه من عج وثج وتوحيد ويقين ودعاء وانكسار وخشوع وإخبات.
ومن معاني الحج أنه ذكرى إلى الآخرة وتنبيه إلى ذلك اليوم الشديد، رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ [آل عمران: 9]. فيوم عرفة صورة مصغرة لمحشر الناس يوم القيامة، وفية تذكير باجتماع الناس إلى ربهم وخضوعهم له، وقد أصابهم من الرهق والتعب ما أصابهم.
ومن معاني الحج أنه مظهر فريد في التدين والعبادة، لم يؤتَِ لأمة من الأمم، يدل على شرف هذه الأمة، وأنها الأمة الباقية الخالدة، فمهما أصابها من سموم وبليات إلا أنها باقية ما اتجهت إلى ربها وقصدت بيته وحرمته، فلماذا اليأس وهذا الحج يجدد الوصال؟! ولماذا الحزن وهذا الحج يوثق الرابطة ويزيد في التآلف والمحبة؟!
يا مسلمون، إنَّّ من يقصد هذا البيت يشعر بمزيد الفخر والاعتزاز، ويسطع عنده الإيمان وهو يرى هذا البيت ويشاهد ازدحام الناس عليه ويرى حرصهم على اقتفاء هدي النبي ، وقد أتوا من أماكن بعيدة وقطعوا مسافات شاسعة. ومن يتأمل هذا الحج يُدرك خيرية هذه الأمة، وأنها تمرض ولا تموت، وتضعف ولا تتلاشى، وأنها بحاجة لمن يوقظها ويهديها ويبصرها بما ينفعها ويصلح لها، ومن ذلك اجتماعها في تلك الأماكن المقدسة بكل إيمان وخضوع مع أنها قد اجتمعت على شعارات ضالة وفي ميادين ساقطة وعلى ملاهٍ وسفاهات، ولكنها ما غيرت من حالها شيئا ولا رفعتها من مستنقع الهوان والذلة، بل ما زادتها إلا هوانا، وما زادتها إلا خزيًا وخسرانًا، وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ [الحج: 18].
ومن معاني الحج أنه اجتماع باسم الإسلام، جمعهم الله على دينه، وآواهم على شرعه، فلم تجمعهم نعرات ولا عنصريات ولا جنسيات، وإنما جمعهم هذا الدين وألف بينهم هذا الإيمان، وفي ذلك تأكيد أن هذه الأمة لا يؤلفها إلا الإسلام، ولا يجمع شتاتها إلا الإيمان، فهو دين الوحدة والتعاون والتضامن، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ [الأنفال: 63].
فيا معاشر الإخوان، استبشروا بأمتكم خيرًا، فإنها أمة العدل والقيادة، وبها يسود الأمن والرخاء ويعم الخير والسلام، وإن لها موعدًا مع الله تحكم به العالم وتقيمهم بكتاب الله. وتذكروا أنه بغياب المسلمين عن مسرح القيادة ضلَّ العالم طريقه وساد الظلم وعمَّت الفوضى واشتعلت الحروب والقلاقل وفقد الناس النور والسعادة. لماذا كل ذلك؟ لأن العالم حكَمه من ليس أهلاً لذلك، وحكمه المجرمون بالأهواء والشهوات، وجعلوا دينَهم الهوى وحياتهم الشهوة، فمزقوا العقول، ودمروا الطاقات، وقتلوا الإنسان، ولم يحققوا له أي معنى من معاني النجاة والسعادة.
وها هو الرجل الغربي مع ما يحفل به من تقدم حضاري مذهل إلا أنه تعيس في الدين، مفلس في الروح، غير مسرور بتقدمه وحضارته. فكيف تفلح حضارة بلا دين؟! وكيف يسود علم بلا صلاح؟! وها هم الآن يحاولون صناعة السعادة كما صنعوا الصاروخ والدبابة، ولكن هيهات هيهات! إنما يصنع السعادة الدين الحق، وليس الأهواء وميادين الخنا والتعاسات.
أدهـى من الجهل علم يطمئن إلَى أنصاف ناسٍ طغوا بالعلم واغتصبوا
قالوا هم البشرُ الأرقـى وما أكلوا شيئا كما أكلوا الإنسان أو شربوا
وصدق الله إذ يقول: يعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم: 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...
|