أما بعد: فاتقوا الله القائل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران: 102].
عباد الله، إن الحجَّ من أفضل العبادات التي شرعها الله عز وجل، وهو الركن الخامس من أركان الإسلام، فرضه الله عز وجل على عباده، ولكنه سبحانه وتعالى جعله مقرونا بالاستطاعة، قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً [آل عمران: 97].
صح عن النبي أنه قال: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)). يعود نقيا من الذنوب، خاليا من الآثام، فأين أولو الألباب والأفهام؟!
إن الحج ـ عباد الله ـ عبادة بدنية، يطلب من العبد فعلها بنفسه إن استطاع ذلك، وإن لم يستطع فقد جاءت السنة بجواز الاستنابة فيه، وذلك في الفريضة وفي حال اليأس من فعلها، وذلك لما ورد في البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحج أدركت أبي شيخا كبيرا لا يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: ((نعم))، وذلك في حجة الوداع. وفي حديث آخر أن امرأة قالت: يا رسول الله، إن أمي نذرت أن تحج ولم تحج حتى ماتت، أفأحج عنها؟ قال: ((نعم، اقضوا حق الله، فالله أحق بالوفاء)).
ذلكم ـ يا عباد الله ـ أنه لا فرق في الشريعة بين ما كان أصلا فيها وما أوجبه الإنسان على نفسه بنذر أو نحوه، وهذان الحديثان يدوران حول حجة الفريضة في الأصل وحجة النذر وهو ما أوجبه العبد على نفسه بنذره، وهنا لا بأس بالإنابة في الحج، وأما حج التطوع وهو الزائد عن الفريضة فجدير بمن كان قادرا على الحج بنفسه أن يحج، ولا يصح له أن يوكّل من يحجّ عنه؛ لأن شرط الاستطاعة متحقق عنده، ولقد تساهل كثير من الناس في التوكيل في حج التطوع، وخصوصا في زماننا هذا، حتى صارت هذه الأيام موسما لتعاطي الحِجَج، فإنّ من يستطيع الحج تطوعا عليه أن يحج بنفسه، ولا يحرم نفسَه من أجر تعب العبادة واستشعار الطاعة والذكر والدعاء والمنافع التي لا تعد ولا تحصى، ويكفيه من ذلك إذا لم يرفث ولم يفسق أن يرجع كيوم ولدته أمه، وهذا لا يمكن إدراكه بالتوكيل إنما بالنفس، وقد منع الإمام أحمد رحمه الله في إحدى روايتين عنه من توكيل القادر شخصا آخر يحجّ عنه تطوّعا، ولا يصلح التساهل في ذلك أيها المسلمون، فإما أن يحج تطوعا بنفسه، أو يبذل المال الذي يريد الحجّ به لمن لم يحج، فيكون قد أعان من لم يحج ووفر لهم شرط الاستطاعة، ويكون له مثل ما لهم من الأجر والثواب، دون أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا.
ولقد رأيت الناس ـ أيها الأحبة ـ تفاوتوا في هذه المسألة تفاوتا عجيبا، واختلفوا اختلافا غريبا، وسلكوا في ذلك فجاج الإفراط والتفريط، فتجد منهم من هو كثير المال صحيح البدن ومضى به الكبر حتى بلغ منه مبلغا عتيا ومع ذلك لم يحجّ، حجة الفريضة لم يحجّها، أليست هذه مشكلة ومصيبة ومعضلة؟! ولقد قال النبي : ((تعجلوا الحج، فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)).
عباد الله، إن من كانت هذه حاله فهو على خطر عظيم إن لم يتدارك نفسه، فمن كانت هذه حاله فدعائي له بالتوفيق، ورجائي إليه أن ينوي الحج من هذا المكان، فالنية هي الانطلاقة، وبعدها ييسر الله سبحانه كل أمر، وإذا عاد إلى بيته وأهله أن يعلن بذلك، ويقول لهم: سأحج هذا العام بإذن الله، وذلك ليستقر الأمر على واقع وعزيمة، لا على سكوت وتسويف وهزيمة، وذلك ليسأله أهله كل يوم عن إنجازاته في هذا السبيل، ويكونون عونا له في ذلك، أما السكوت فهو مصيدة الشيطان وملجأ التسويف.
إخوة الإسلام، وفي مقابل ذلك تماما شخص يحج كل سنة ويذهب كل عام، ولم يحسب ولم يحتسب لمشقة الناس والازدحام وضيق المشاعر أيّ حساب واحتساب، نحن لا نقول: في حجه شيء؛ لأن الحج من أفضل الأعمال، ولكن الاحتساب في التوسيع على المسلمين طالما أنه حج حجة الفريضة وحج تطوعا مرة أو مرتين، وهنا يكون توسيعه على المسلمين من ناحيتين: الأولى أنه أفسح المكان لغيره، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ [المجادلة: 11]، فإن كان هذا في حق آداب المجالس عموما فمن باب أولى أن يكون في آداب الأماكن المزدحمة التي يترتب عليها أداء الفرائض، والناحية الثانية أنه وسع على المسلمين بدفع ذلك المال الذي يزمع الحج به إلى من يحج به فريضته، أو إلى الفقراء واليتامى والمساكين، سيما وأنهم بأمسّ الحاجة في تلك الأيام أيام عشر ذي الحجة إلى المال، وكما قال عليه الصلاة والسلام: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من عشر ذي الحجة))، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟! قال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله ولم يرجع من ذلك بشيء)). إن القربات المتعدي نفعها للآخرين خير من القربات اللازمة، وذلك في غير الفرائض.
الحج ـ أيها المسلمون ـ عبادة، ركن من أركان الإسلام، لا يصرف ذلك إلى أمر دنيويّ ولا تكسب مادي؛ لأن هناك من يأخذون هذه الحجج ويبحثون عمّن ينيبهم، وذلك كلّه من أجل المال فقط، فهذا حرام عليهم؛ لأن الحج ليس سلعة، وليس عملا دنيويا، كبناء بيت أو إقامة جدار يقصد به التكسب والتجارة، بل إن من هؤلاء من يكاسِر على الحجة ويتشكّى من قلة المال المدفوع، حتى صارت العبادة حرفة وصنعة ولا حول ولا قوة إلا بالله، وقد حفظ الإمام مالك رحمه الله عن عطاء بن أبي رباح أنه قال: لا يشترط على النسك من جهة المال، وقد صرح الحنابلة رحمهم الله بأن تأجير الرجل الرجل ليحجّ عنه غير صحيح، وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "من حج ليأخذ المال فليس له في الآخرة من خلاق" اهـ، لكنه إذا أخذ الحجة ومقصوده نفع أخيه وذلك بالحج عنه وليحصل له الدعاء والذكر والمنافع الأخرى في موسم الحج وكانت نيته سليمة فلا بأس في ذلك، والمال الذي يدفعه المستنيب صاحب الحجة يكون كله للوكيل إلا أن يشترط عليه صاحب الحجة أن يرد له ما بقي من المال، وتكون العمرة والحج لصاحب الحجة لثبوت ذلك في أعراف الناس، إلا أن يشترط الوكيل أن تكون العمرة له ويقبل الموكل ذلك، ولا يجوز للوكيل أن ينيب غيره إلا برضا صاحب الحجة، وما زاد عن الحجة المتفق عليها من دعاء وطواف وصلاة وتطوع خارج النسك فهو للوكيل، وعلى الوكيل أن يقول عند الإهلال بالنسك عند الإحرام: لبيك عمرة متمتعا بها إلى الحج عن فلان بن فلان، لمن كانت له الحجة، وعند الحج: لبيك حجا عن فلان بن فلان، وإن نسي اسمه نوى ذلك بقلبه. وينبغي للوكيل أن يتقي الله، وأن يجتهد في إكمال النسك الموكلة إليه، وأن يتحرّى الإخلاص في أداء تلك الأمانة.
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
|