أيها المسلم، هل سمعت بالأشواق حين تختلج في قلوب المحبين؟ هل رأيت بعينيك دموع المحبين وهم يسمعون حادي الأرواح إلى مشاعر الحج؟ أوَلم تر عيناك ذلك الكهل الذي أثّر الزمن في ظهره ومع ذلك هو بنفسه يجوب تلك الفيافي ويرحل إلى عالم المحبين؟ فيا لله، لو رأيت تلك الجموع لهزك الشوق إلى هناك.
أيها المسلم، إليك قصة مثيرة دونها التاريخ كرحلة من أعظم الرحلات، قصة الحاج عثمان دابو رحمه الله تعالى من جمهورية جامبا في أقصى المغرب الإفريقي وقد تجاوز الثمانين من عمره، قصة قصّها الداعية عبد الرحمن الصويّان.
يقول الداعية: زرته قبل وفاته في منزله في إحدى الرحلات إلى إفريقيا، زرته في منزله المتواضع بقريته الصغيرة قرب العاصمة بانجول، وحدثني عن رحلته الطويلة قبل خمسين عامًا إلى البيت العتيق، حجّ تلك الأيام ماشيًا على قدميه برفقة أربعة من صحبه، حجّوا من بانجول إلى مكّة قاطعين قارّة إفريقيا من غربها إلى شرقها، وهكذا هي الأشواق، لم يركبوا في تلك الرحلة إلا فتراتٍ يسيرة متقطّعة على بعض الدواب إلى أن وصلوا إلى البحر الأحمر، ثم ركبوا السفينة إلى ميناء جدة، رحلة مليئة بالعجائب والمواقف الغريبة التي لو دوّنت لكانت من أكثر كتب الرحلات إثارة وعبرة، استمرّت الرحلة أكثر من سنَتين، ينزلون أحيانًا في بعض المدن للتكسّب والراحة والتزوّد لنفقات الرحلة ثم يواصلون المسير. يقول الداعية: سألته: أليس حجّ البيت الحرام فرض على المستطيع وأنتم في ذلك الوقت غير مستطيعين؟! قال: نعم، ولكنا تذاكرنا ذات يوم قصة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام عندما ذهب بأهله إلى وادٍ غير ذي زرع عند بيت الله الحرام فقال أحدنا: نحن الآن شباب أقوياء أصحاء فما عذرنا عند الله تعالى إن نحن قصّرنا في المسير إلى بيته الحرام؟! خاصة أننا نظن أن الأيام لا تزيدنا إلا ضعفًا، فلماذا التأخير؟! خرج الخمسة من دورهم وليس معهم من القوت إلاّ ما يكفيهم لأسبوع واحد فقط، وأصابهم في طريقهم من المشقّة والضيق والكرب ما الله تعالى به عليم، فكم من ليلة باتوا فيها لا يجدون طعامًا ولا كساءً حتى كادوا يهلكون, كم من ليلة طاردتهم السباع وفارقهم لذيذ المنام، وكم من ليلة عرض لهم قطّاع الطريق.
رب ليلٍ بكيت منه فلما صرت في غيره بكيت عليه
يقول الحاج عثمان دابو: لدِغت ذات ليلة في أثناء السفر، فأصابتني حمى شديدة وألم عظيم أقعدني وأسهرني، وشممت رائحة الموت تسري في عروقي.
وإني لأرعى النجم حتى كأنني على كل نجم في السماء رقيب
فكان أصحابي يذهبون للعمل، وكنت أمكث تحت ظل شجرة إلى أن يأتوا في آخر النهار، فكان الشيطان يوسوس ليك: أما كان الأولى أن تبقى في أرضك؟! لماذا تكلّف نفسك ما لا تطيق؟! ألم يفرض الله الحج على المستطيع؟! لكن الأشواق إلى رؤية بيت الله تعالى ومواطئ الأنبياء كانت أشد في قلبي من تلك الوساوس كلها.
ظل هؤلاء يسيرون في رحلتهم، وفي أثناء الطريق مات منهم ثلاثة كان آخرهم في عرض البحر، واللطيف في أمره أنه قال في وصيته لصاحبيه: إذا وصلتما إلى المسجد الحرام فأخبرا الله تعالى شوقي للقائِه، واسألاه أن يجمعني ووالدتي في الجنة مع النبي ، قال عثمان دابو: لما مات صاحبنا الثالث نزلني همٌ شديد وغم عظيم، وكان ذلك أشدّ ما لقيت في رحلتي، فقد كان أكثرنا صبرًا وقوة، وخشيت أن أموت قبل أن أنعم بالوصول إلى تلك المشاعر، فكنت أحسب الأيام والساعات.
إذا برقت نحو الحجاز سحابة دعا الشوق مني برقها المتطامن
فلما وصلنا إلى جدّة مرضت مرضًا شديدًا وخشيت أن أموت قبل أن أصلَ إلى مكة، فأوصيت صاحبي أن إذا متّ أن يكفنني في إحرامي ويقربني قدر طاقته إلى مكة لعل الله تعالى أن يضاعف لي الأجر ويتقبلني في الصالحين.
فيوشك أن يحول الموت بينِي وبين جوار بيتك في الطواف
فكم من سائلٍ لك ربّ رغبًا ورهبًـا بين منتعل وحـافي
أتاك الراغبون إليك شعثًـا يسوقون المقلّدة الصـوافِي
مكثت في جدة أيامًا ثم واصلنا طريقنا إلى مكة، بعد أن تدثّرنا بإحرام الحج كانت أنفاسي تتسارع والبشر يملأ وجهي والشوق يهزني ويشدني إلى الوصول إلى المسجد الحرام، سكت الشيخ قليلاً وأخذ يكفكف عبراته، وأقسم بالله تعالى أنه لم ير لذّة في حياته كتلك اللذة التي عمرت قلبه لمّا رأى الكعبة المشرفة، قال: لما رأيت الكعبة سجدت لله تعالى شكرًا، وأخذت أبكي من شدّة الرهبة والهيبة كما يبكي الأطفال، فيا لله ما أشرفه من بيت! وما أعظمه من مكان! ثم تذكرت أصحابي الذين تساقطوا في الطريق ولم يتيسّر لهم مثل رؤيتي، فبكيت وحمدت الله تعالى على نعمته وفضله عليّ اهـ. وكتب الله تعالى له أن يؤدّي فريضة الحج بمثل هذه المحن.
هذه رحلة عثمان دابو من أقصى إفريقيا إلى مكة عبر عامين من الزمن، قطع فيها البحر والبر، وتعرّض خلالها للسرقة والنهب، لدغ في الطريق وبات متألمًا من آثار ذلك السمّ الزعاف، كم من ليلة بات فيها في العراء دون لحاف، وكم من يوم ظل فيه يناظر الطرقات يبحث عمّن يتصدّق عليه بغداء أو عشاء، تساقط صحبه في الطريق، وماتوا وهم راحلون إلى الله تعالى، وحال الموت بينهم وبين تلك الأشواق، وعانق الرجل مكة بعد هذا الزمن كله، طاف بالبيت وسعى، وشهد مشاهد المشاعر كلها وهو يلبي: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك.
أقول ما تسمعون، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
|