وبعد: يقول الله تعالى في كتابه العزيز: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [البقرة:197-199].
أيها المسلمون، يقترب منا هذه الأيام موعد فريضة من فرائض الله التي افترضها علينا سبحانه وحث عليها في كتابه، كما حث عليها رسوله وندب إليها، هذه الفريضة هي فريضة الحج إلى بيت الله الحرام التي هي ركن من الأركان التي قام عليها بناء الإسلام العظيم، وركيزة من الركائز المهمة لهذا الدين الحنيف، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله : ((بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان)) متفق عليه.
الحج إلى بيت الله الحرام وأداء مناسكه المعروفة أمر فرضه الله سبحانه على عباده وشعيرة قديمة من شعائر الله، كان ابتداء أمر الحج في عهد نبي الله إبراهيم عليه السلام، فهو الذي بنى البيت وأمره الله سبحانه بدعوة الناس إلى الحج قال تعالى: وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:26-29].
أذن إبراهيم عليه السلام بالحج فاستجاب الناس لهذا الأذان وأمّوا البيت زرافات ووحدانا رجالا وركبانا، ومنذ أن نادى نبي الله إبراهيم عليه السلام ذلك النداء الذي تردد في أرجاء الكون صارت تلك الديار القاحلة الشديدة الحرارة ذات الجبال السود بأمر من الله وتدبير منه سبحانه وإجابة لدعاء خليله عليه السلام صارت مهوى لأفئدة المسلمين، تحن إليها قلوبهم وتشتاق إليها أفئدتهم، ذلك الدعاء الذي رفعه إبراهيم عليه السلام عندما ترك زوجه وولده بذلك الوادي المقفر الذي ليس به شجر ولا بشر، فقال مشفقا مبتهلا: رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم:37]، فصار الناس منذ ذلك الحين ومنذ تلك الدعوة يهوون إلى ذلك المكان على مر السنين والأيام، ليس هذا فحسب بل صار ذلك الوادي ملتقى للمسلمين من كل مكان وبقعةً مباركة تتكدس فيها الخيرات من كل حدب وصوب؛ استجابة أيضا لدعاء الخليل الذي قال فيه: رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [البقرة:126]، وبقي الحج إلى البيت الحرام والطواف بالبيت على ما أرساه إبراهيم عليه السلام من دين الحنيفية السمحاء ردحا من الزمن، ثم حُرفت مناسكه وضاعت ملامحه التي كانت على عهد إبراهيم حتى جاء رسول الله فعاد الحج عبادة إسلامية تقوم على توحيد الخالق وتبتعد عن كل شرك أو وثنية.
أما حكم الحج ـ أيها المسلمون ـ فإنه فرض كما هو مقرّر في كتاب الله وسنة رسوله ، وكما بينه فقهاء الأمة، فالحج على المسلم البالغ العاقل الحر المستطيع واجب، وأكثر العلماء على أن الحج واجب على الفور لا على التراخي، أي: متى توفرت شروطه والقدرة عليه وجب على المسلم أداؤه مرة في العمر، عن أبي هريرة قال: خطبنا رسول الله فقال: ((يا أيها الناس، إن الله قد فرض عليكم الحج فحجوا))، فقال رجل: أكُلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا، فقال رسول الله : ((لو قلت: نعم لوجبت، ولما استطعتم))، ثم قال: ((ذروني ما تركتم)) أخرجه مسلم.
فلا ينبغي لمسلم يخاف الله سبحانه ويرجو لقاءه لديه الكفاية والاستطاعة أن يفرط في هذا الأمر أو يؤجله بدون سبب وجيه؛ فإنه لا يأمن على نفسه غضب الله القائل سبحانه: وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97]. هذا تأكيد واضح على فريضة الحج ووعيد شديد على المتهاون فيها، يقول القرطبي كما في أحكام القرآن عن هذه الآية يقول: "هذا خرج مخرج التغليظ؛ ولهذا قال علماؤنا: تضمنت الآية أن من مات ولم يحج وهو قادر فالوعيد يتوجه عليه" انتهى. كما أن الإنسان ـ إخوة الإيمان ـ لا يدري من مستقبل أيامه شيئا، ولا يعلم ما يجدُّ عليه من أمر الله وقضائه، ولا يضمن لنفسه في مستقبل الأيام أجلا ولا صحة ولا رزقا، فكيف يؤخّر هذه الفريضة بعد أن وجبت عليه وقدر عليها إلى وقت لا يعلم ما يقضي الله فيه؟! لهذا فقد أمرنا رسول الله بتعجيل حجّ الفريضة وعدم التسويف فيه، يقول : ((تعجلوا إلى الحج ـ يعني الفريضة ـ؛ فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له)) أخرجه أحمد عن ابن عباس.
أما منزلة الحج فيكفي ـ كما قلنا ـ أنه ركن أساسي من أركان الدين وأحد أهم معالمه التي عرّف بها رسول الله الإسلام عندما سأله جبريل عليه السلام عن الإسلام وهو بين أصحابه، بل إن رسول الله يشير في حديث آخر إلى الحج على أنه من بين أفضل الأعمال عند الله، وكلنا يتطلع إلى القيام بالأعمال التي فضلها الله سبحانه وأعلى شأنها حتى ننال أجرها وثوابها، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور)) أخرجه الشيخان.
لهذا وجب على كل مسلم لم يؤد هذه الفريضة أن يتطلع لتأديتها، وأن يدعو الله سبحانه أن يمكنه من القيام بها امتثالا لأمر الله وسعيا لنيل ثوابها العظيم، هذا الثواب الذي تواترت به الأحاديث والأخبار، والذي لا ينبغي للمسلم أن يزهد فيه وهو يسمعه من كلا م من لا ينطق عن الهوى رسول الله ، يقول فيما أخرجه الترمذي من حديث ابن مسعود: ((أديموا الحج والعمرة؛ فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد))، هكذا تصنع هذه الفريضة بالمسلم الصادق كما يبين ، تنفي عنه الفقر والذنوب، وهذا أمر مهم للمسلم في دنياه وأخراه، ويقول فيما اتفق عليه الشيخان من حديث أبي هريرة: ((العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة))، يبين في هذه الكلمات النبوية المباركة أن الله سبحانه بمنه وفضله يكفر ما بين العمرتين، ثم يبين عليه الصلاة والسلام أنه لا ثواب للحج المبرور المقبول عند الله إلا الجنة، وهل هناك أعظم من الجنة؟! هل هناك أعظم من هذه الجائزة التي يتشوف إليها كل مسلم مؤمن حتى أنبياء الله عليهم السلام؟! ويكفي الحاج فخرا وعزا ورفعة أنه يقدم على الله الذي يكرم وفده سبحانه ويَحبوهم ويتفضل عليهم، عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله قال: ((الغازي في سبيل الله عز وجل والحاج والمعتمر وفد الله، دعاهم فأجابوه، وسألوه فأعطاهم)) أخرجه ابن ماجة وابن حبان عن ابن عمر.
هكذا ـ أيها المسلم ـ تتوجه إلى تلك الرحاب الطاهرة بقلب موحّد ونفس طيبة وكسب حلال طيب، فتؤدي مناسكك، وتتوب إلى ربك سبحانه، وترفع أكف الضراعة والاستجداء، كلّ هذا بتوفيق منه سبحانه لا منة لك فيه، ومع هذا يكون جزاء ذلك أن تنفَى عنك الذنوب وينفى عنك الفقر، يكون جزاء ذلك أن تسأل الله فيعطيك ويتفضّل عليك، يكون جزاء ذلك أن تمحى سيّئاتك وتعود بعد حجك بصحيفة بيضاء ناصعة وكأنك ولدتَ للتوّ. أما إذا مات الحاجّ الذي يبتغي بحجّه وجه الله إذا مات حال حجه فتلك الكرامة العظمى وتلك الجائزة السنية من رب البرية، هذا الحاج يبعث ـ أيها المسلمون ـ على ما مات عليه، يبعث في ذلك اليوم العصيب يوم القيامة محرما ملبيا، وكأنه لا زال يؤدي مناسك حجه، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا كان مع النبي فوقصته ناقته ـ أي: طرحته فدقت عنقه ـ وهو محرم فمات، فقال رسول الله : ((اغسلوه بماء وسدر، وكفنوه في ثوبيه، ولا تمسوه بطيب، ولا تخمروا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبيّا)) أخرجه النسائي، فما ظنكم برجل يأتي إلى الحساب وهو يحمل معه دليل إيمانه وشهادة توحيده؟! ما ظنكم برجل يأتي إلى فصل الخطاب وهو يقول لمولاه الذي سيحاسبه: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك؟!
أسأل الله أن لا يحرمني وإياكم فضله، وأن يمن علينا بحجة مبرورة، لا رفث فيها ولا فسوق ولا جدال، إنه ولي ذلك والقادر عليه. أقول ما تسمعون، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
|