أمّا بَعد: فأُوصِيكُم ونفسِي بتَقوَى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
هنيئًا لمن وفِّق للصيام، هنيئًا لمن تقبَّل الله منه، هنيئًا لمن جأَر إلى الله بأصدق الدَّعَوات، هنيئًا للتّائبين، هنيئًا للمستغفِرين. كم من تائبٍ قُبِلت توبتُه ومُستغفِرٍ مُحيَت حَوبَته، كم من مستوجِب للنار أجارَه الله منها وأسعَده. يا من صُمتم رمضانَ، هنيئًا لكم قولُه : ((من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه)) أخرجه البخاري ومسلم.
أيها المسلمون، للعمل الصالح جزاءٌ في الدنيا والآخرة، فالجزاءُ في الدنيا حُسنُ رعايةِ الله، ففي الحديث القدسي: ((وما يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصر به، ويدَه التي يبطش بها، ورجلَه التي يمشي عليها)) رواه البخاري.
جزاءُ العمل الصالح المودَّةُ في قلوبِ المؤمنين، قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمْ الرَّحْمَنُ وُدًّا [مريم:96]. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرةَ قال: قال رسول الله : ((إذا أحبَّ الله العبدَ نادى جبريلَ: إنَّ الله يحب فلانا فأحبِبْه، فيحبُّه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء: إن الله يحبُّ فلانا فأحبُّوه، فيحبُّه أهل السماء، ثم يوضَع له القبول في الأرض)).
حسن الذكر جزاءُ العمل الصالح، قال تعالى: وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا [العنكبوت:27]، أي: جمع الله تعالى لإبراهيم عليه السلام بين سعادة الدنيا الموصولَة بسعادة الآخرة، فكان له في الدنيا الرزقُ الواسع الهنيّ والمنزِل الرَّحب والمورد العَذب والثناء الجميل والذكرُ الحسَن وكلُّ أحدٍ يحبّه ويتولاَّه.
تفريجُ الكروب جزاءُ العمل الصالح، قال تعالى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2، 3]، وفي الحديث عن النبي : ((بينما ثلاثةُ نفَر يمشونَ أخذَهم المطر، فآوَوا إلى غار في جبل، فانحطَّت على فمِ غارهم صخرةٌ منَ الجبل فانطبَقَت عليهم)) رواه البخاري ومسلم، فلم يُنقِذهم إلاّ توسّلُهم إلى الله بأعمالهم الصالحة.
مَن صام رمضان وظنَّ أنَّ الصيام والقيامَ قد انقضى بانقضاء رمضانَ فقد أخطأ، فمِن علامة الحسنة فِعلُ الحسنة بعدها، ونهايةُ العمل يكون بالموت، قال تعالى: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]. ومِن علامة قبول التوبة والأعمالِ أن يكونَ العبد أحسنَ حالا بعد الطاعة عمَّا قبل. ومن علامةِ القبول التوفيقُ بعد العمَل إلى عملٍ صالح، قال بعض السلف: "جزاء الحسنة حسنةٌ بعدها، وجزاء السيئة سيّئة بعدها"، فالأعمال الصالحة تجرّ بعضُها بعضًا، والأعمال السيّئة يسوق بعضها بعضًا، قال بعض السلف: "من وجَد ثمرةَ عمله عاجلاً فهو دليل على وجود القَبول آجلا".
أيها المسلمون، داوِموا على الخير الذي قدَّمتموه والفضلِ الذي نِلتموه بالمداومة على العمل الصالح، وفي مقدّمة هذه الأعمال الصالحة الصلاةُ، الزكاة، الصيام، الحجُّ، فهي من أركان الإسلام التي لا يجوز التهاونُ بها مطلقًا والتقليلُ من أهمِّيَّتها.
العمل الصالح لا يقتصر على عباداتٍ معيّنة وحالات مخصوصة، بل هو عامّ واسع ومفهومٌ شامل، فمن بنى مسجدًا أو أنشأ مدرسةً أو أقام مستشفى أو شيَّد مصنعًا ليسُدَّ حاجةَ الأمة فإنه يكون بذلك قد عمل صالحا وله به أجر. من وَاسَى فقيرًا وكفل يتيما وعاد مريضًا وأنقذ غريقًا وساعد بائسا وأنظر معسِرا أرشد ضالاًّ فقد عمل صالحا، قال عليه الصلاة والسلام: ((كلُّ معروف صدقة)) رواه البخاري.
كل عمل صالح ينتفع به الآخرون أنت مأجور عليه وهو من الصالحات. الإحسانُ إلى البهائم عمَلٌ صالح، رجل سقَى كلبًا فشكر الله له سعيَه فغَفر له. غرسُ الأشجار إماطةُ الأذى عن طريق الناس عمَل صالح. الخِدمة العامّة للمجتمع صيانةُ مرافق المسلمين العامّة عمل صالح بالنِّيَة الصادقة، فقد قال : ((مرَّ رجلٌ بغصنِ شجرةٍ على ظهر طريقٍ فقال: والله، لأنَحِّيَنَّ هذا عن المسلمِين؛ لا يؤذِيهم، فأُدخِل الجنةَ)) رواه البخاري ومسلم، وقال : ((الإيمان بضع وسبعون ـ أو: بضع وستون ـ شعبة))، وفيه: ((وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)).
على المرء أن لا يحقِرَ المعروفَ وعمَل الخير مهمَا كان صغيرًا، فالله يجازي على وزن الذَّرَّة من الخير، فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7، 8]، وفي الحديث: ((لا تحقرنَّ من المعروف شيئا ولو أن تلقَى أخاك بوجهٍ طلق)).
وإذا قعدَت بالعبد قلَّةُ ذات اليد وكان يملك نفسًا توَّاقةً للعمل الصالح فتَح الله له من ميادين الخيرِ حسبَ طاقته، فعن أبي موسى عن النبي : ((على كلِّ مسلمٍ صَدقة))، قالوا: يا نبيَّ الله، فمن لم يجد؟! قال: ((يعمل بيده فينفع نفسه ويتصدَّق))، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((يعين ذا الحاجة الملهوف))، قالوا: فإن لم يجد؟! قال: ((فليعمل بالمعروف وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة)) أخرجه البخاري ومسلم.
كلُّ من يؤدي رسالةً لأمته فهو في عملٍ صالح؛ الكاتبُ بقلمه الصالح، والطبيب بأدويتِه النافعة، والباحث في معمَله، والفلاح في مزرعَتِه، والمعلِّم بين يدَي طلاَّبه، والمسؤول يؤدِّي ما ائتُمِن عليه، كلُّ هؤلاء ينصرون الدين ولهم فضل عظيم.
أيها المسلمون، المداومة على الأعمال الصالحة من أحبِّ الأعمال إلى الله، ومن هديِ رسول الله المداومةُ على العمل الصالح، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: كانَ رسول الله إذا عمل عملاً أثبته، وكان إذا نامَ من الليل أو مرضَ صلَّى من النهار ثِنتَي عشرةَ ركعةً. رواه مسلم.
بارَك الله لي ولَكم في القُرآنِ العظيم، ونَفَعني وإيّاكم بما فيه من الآياتِ والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيم لي ولَكم، فاستغفِروه إنّه هو الغفور الرّحيم.
|