أما بعد: فاتقوا الله معاشر المسلمين، فإن تقوى الله أقوم وأقوى، وتوكلوا على الله، ومن توكل عليه كفاه وأغناه، وادعوه خوفًا وطمعًا إن رحمة الله قريبٌ من المحسنين، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
أيها المسلمون، في الأيام الماضية ودّعنا شهر الصيام، ولكن ألسنتنا لا تزال طرية بالقرآن، وقلوبنا عامرة بالتقوى والإيمان، أو على الأقل نعتقد ذلك. ومن المفترض أن لا تحيط الغشاوة بأبصارنا فتعميها من رؤية المحتاج، وتقبض أيدينا عن وجوه الإنفاق والبر والإحسان. ترى هل تستطيع الشياطين بعد أن أطلقت قيودها أن تحجبنا عن حضور جماعات المسلمين آناء الليل وأطراف النهار وقد كنّا في رمضان من المبادرين إلى الصلوات وفي مقدمتها صلاة الفجر والعشاء؟! وإذا كان من فضل الله علينا في رمضان أن تبعَّدْنا عن سمات المنافقين أفنتخبّط في الظلمة في شوال أو في غيره من أشهر العام فننام عن بعض الصلوات المكتوبة ونفرّط في صلاة الجماعة؟!
وإني سائلٌ نفسي وإياك يا أخا الإسلام: كم جزءًا من كتاب الله قرأنا بعد انقضاء شهر الصيام؟ وكم ركعةً لله من غير الفريضة ركعناها بعد انقضاء رمضان؟ وهل صمنا شيئًا من ست شوال التي جاء في فضلها ما نعلم بعد انقضاء شهر الصيام؟ إلى غير ذلك من أعمال عمرتْ بها قلوبنا واستقامت بها حياتنا في شهر رمضان، فإن قلنا: إن تقصيرنا هذه الأيام لفرحةِ العيد وظروفه، فيردنا السؤال الآخر: وهل أضمرنا نية الخير ومواصلة الطاعة وعدم الركون للكسل بعد شهر رمضان؟ وهل سنأخذ أنفسنا بالعزيمة أم يمضي العمر بالأماني الفارغة وركوب بحر التمني؟
عباد الله، إذا كنا قد عزمنا على التوبة في شهر التوبة والغفران، فمن المفاهيم الخاطئة أن نقصر التوبة على شهر رمضان، ومن الخطأ كذلك أن نقصر التوبة على الإقلاع عن الذنب والندم عليه وعدم الرجوع إليه مرةً أخرى، ولكن التوبة لا تتم إلا بأمورٍ عدة منها: 1- الإقلاع عن الذنب وعدم العودة إليه، 2- التوبة من الذنب، 3- الندم على ما فات، 4- العزم الصادق على عدم العودة إلى الذنب، 5- أن يكون تركها لأجل الله تعالى لا لخوفٍ أو مصلحة أو غير ذلك. يقول الله سبحانه وتعالى: وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [النور:31]. فكل تائبٍ مفلح، ولا يكون مفلحًا إلا من فعل ما أمر الله به وترك ما نهى عنه، يقول تعالى: وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ [الحجرات:11]. وتارك المأمور ظالم، كما أن فاعل المحظور ظالم، وزوال اسم الظلم عنه إنما يكون بالتوبة الجامعة للشروط السابقه. يقول ابن القيم رحمه الله: "فالتوبة إذًا هي حقيقة دين الإسلام، والدين كله داخلٌ في مسمّى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه، والتوبة هي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه الله ظاهرًا وباطنا، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، لهذا كانت غاية كل مؤمن وبداية الأمر وخاتمته... ـ إلى أن يقول رحمه الله: ـ وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها فضلاً عن القيام بها عِلمًا وعملاً وحالاً، ولولا أن التوبة اسم جامع لشرائع الإسلام وحقائق الإيمان لم يكن الرب تبارك وتعالى يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم".
أيها المسلمون، إذا كان هذا عن معنى التوبة وقدْرها فاعلم أن التوبة محفوفة بتوبة من الله على العبد قبلها وتوبة منه بعدها، فتوبته بين توبتين من ربه سابقة ولاحقة، فإنه تاب عليه أولاً إذنًا وتوفيقًا وإلهامًا، فتاب العبد فتاب الله عليه قبولاً وإثابة، وتأملوا قول الله سبحانه وتعالى: لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمْ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنْ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة:117، 118]. فأخبر سبحانه أن توبته عليهم سبقت توبتهم، وأنها هي التي جعلتهم تائبين، فكانت سببًا مقتضيًا لتوبتهم، فدل على أنهم ما تابوا حتى تاب الله عليهم، والحكم ينتفي لانتفاء علته.
فبادر ـ يا أخا الإسلام ـ إلى التوبةِ عاجلاً، واسأل الله أن يوفقك إليها ابتداءً، وأن يقبلها منك ويثيبك عليها انتهاءً، والزم الاستغفار ففيه خيرٌ عظيم، ولا يزال لسانك يلهج بالاستغفار.
أيها المسلمون، مداواة القلوب بهذه الأدوية الناجحة لا يتوقّف على رمضان، فمصيبةٌ أن يعود المسلمون إلى ربهم في رمضان ويصبحوا ضالين عن هُداه في سائر العام، مصيبةٌ عظمى أن يقصر المسلم إجابته لداعي القرآن في شهر الصيام ويظلُّ هاجرًا للقرآن طوال العام. إن التوبة إلى الله إن فُضّلت في زمانٍ دون زمان، فهي باقية صمام الأمان لمن ابتغى الأمن ورضا الرحمن، ولست تدري ـ يا أخا الإيمان ـ متى يحين الرحيل فتنتقل من دار الفناء إلى دار المقام، وإن الإنابة إلى الله ليست محدودةً بزمان ولا بمكان، بل دعيت إليها قبل حلول العذاب، وحينها يعزّ الناصر وتنتهي فترة الإمهال، وإذا أنبت بها صادقًا فأظهر من الذلِ والافتقارِ بين يديه ما يشهد بعبوديتك للواحد الديان. يُحكى عن بعض العارفين أنه قال: "دخلتُ على الله من أبواب الطاعات كلها، فما دخلت من بابٍ إلا رأيت عليه الزحام فلم أتمكن من الدخول، حتى جئتُ باب الذلّ والافتقار فإذا هو أقرب باب إليه سبحانه وأوسعه، فلا مزاحم فيه ولا معوق"، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله يقول: "من أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ [الزمر:53، 54].
عباد الله، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين فاستغفروه، إنه الغفور الرحيم.
|