أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واشكروه على نعمه التي لا تحصى وآلائه التي تترى.
ألا وإن يومكم هذا يوم شريف، فضّله الله وشرفه، وجعله عيدًا سعيدًا لأهل الإسلام، يفيض عليهم فيه من جوده وكرمه، فاشكروه على إكمال عدة الصيام، واذكروه وكبروه على ما هداكم من نعمة الإسلام، فهذا يوم توّج الله به الصيام، وأجزل فيه للصائمين والقائمين جوائز البر والإكرام، قال ربنا سبحانه: وَلِتُكْمِلُواْ ٱلْعِدَّةَ وَلِتُكَبّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ.
العيد وقت لتنزّل الخيرات والبركات واستجابة الدعوات، فروي عن ابن عباس رضي الله عنهما يرفعه: ((إذا كان يوم عيد الفطر هبطت الملائكة على أفواه السّكك ينادون بصوتٍ تسمعه الخلائق إلا الجن والإنس: يا أمة محمد، اخرجوا إلى رب كريم يعطي الجزيل، فإذا برزوا إلى مصلاهم، قال الله تعالى: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا، أن توفيه أجره، قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم)).
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، في هذا اليوم العظيم يجتمع المسلمون لصلاة العيد، وحينما يجتمعون تبرز الوحدة الإسلامية في أبهى وأروع صورها، فيجتمع في العيد الصغير والكبير والذكر والأنثى والرئيس والمرؤوس، لا فارق بينهم على اختلاف اللغات الألوان.
هذا اليوم يوم مشهود من أيام المسلمين، يوم عيد وفرحة وسرور، فهو ـ وربي ـ فرصة لإزالة الضغائن والأحقاد من القلوب، فدعوا الضغائن ولا تكن من شأنكم.
أيها المسلمون، ليقم كل واحد منكم بحقوق إخوانه المسلمين عليه، ومن ذلك إشاعة الابتسامة والسلام وعيادة المريض واتباع الجنائز وتشميت العاطس وإجابة الدعوة وأداء الأمانة ونشر المحبة والوئام وتحقيق التعاون على البر والتقوى وأن يحب المرء المسلم لإخوانه المسلمين ما يحب لنفسه. ليقم كل واحد منكم ـ يا عباد الله ـ بحقوق الوالدين، فإن حقهما عظيم، وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـٰهُ وَبِٱلْوٰلِدَيْنِ إِحْسَـٰنًا، فمن كان منكم قد أغضب والديه فليرجع إليهما، وليبك تحت أقدامهما، فلا ترجى جنة بغضبهم.
كما يجب أن يؤدي المسلم واجبه تجاه أقاربه وجيرانه من حيث الصلة والبر والإحسان، وليحذر من قطيعة الرحم فإن شؤمها عظيم وضررها كبير، يحل بصاحبها العقاب العاجل قبل الآجل، فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى ٱلأَرْضِ وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ أَوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَـٰرَهُمْ.
لقد وصل الحال ببعض الناس أن يمتلئ قلبه غيظًا وحقدًا على أقاربه وذوي رحمه، فيقاطعهم ويخاصمهم بل يقاضيهم ويعاديهم، ويتمنى لهم الموتَ الزؤام، من أجل أمر تافهٍ حقير، يتعلَّق بحفنة من الحطام أو وشاية غِرّ لئيم أو زلة لسان أو شجار بين الأطفال، فتمرُّ الأشهر والسنوات وقلبُه يغلي عليهم، ونفسه تموج غلاً ضدّهم كما يموج البركان المكتوم، فلا يستريح إلا إذا أرغى وأزبد وآذى وأفسد، وانبلجت أساريرُه بنشر المعايب وإذاعة المثالب وسرد القبائح وذكر الفضائح، وتلك ـ لعَمر الحق ـ من دلائل الصغار واللؤم وخسّة الطبع وقلة المروءة لدى أقوام لا يتلذَّذون إلا بالإثارة والتشويش ولا يرتاحون إلا بالتحريش والتهويش.
في حادثة الإفك المشهورة التي اتهم فيه العرض النبوي وعرض أبي بكر الصديق وآل الصديق بأبشع تهمة يرمى بها الناس، وبعد أن نزلت البراءة من السماء ـ والله ينصر المؤمنين ـ ماذا كان موقف الصديق رضي لله عنه؟ قال: والله، لا أنفق على مسطح بعد اليوم، وكان مسطح رضي لله عنه رجلاً فقيرًا من أقرباء أبي بكر، وكان الصديق ينفق عليه، فلما وقعت فتنة الإفك كان مسطح رضي لله عنه ممن تكلموا في عرض عائشة رضي لله عنها.
وظلم ذوي القربى أشد مرارة من وقع الحسام المهند
بعد حلف أبي بكر بعدم الإنفاق عليه نزل القرآن يتلى إلى يوم الدين: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. ما أشده من موقف وأصعبه على النفوس ولكنه الإيمان، قال أبو بكر بعد أن سمع هذه الآية: بلى والله، أحب أن يغفر الله لي، فعفا من مقدرة وأرجع النفقة على قريبه.
أمة الإسلام إن فضائل الصلة وآثارها الخيرة لا تخفى على العاقل اللبيب، فهي صفة أهل الإيمان، وَٱلَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ ٱللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوء الحِسَابِ، وهي ثمرة من ثمار الإيمان، يقول عليه الصلاة والسلام: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه))، ويقول أيضًا: ((من أحبّ أن يُبسَط له في رزقه ويُنسأ له في أجله فليصل رحمه))، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((لا يدخل الجنة قاطع)).
فحق على كل قاطعِ رحم أن يبادر بالصلة وهذا الوعيد يقرع سمعَه قبل فوات الأوان، ولا أظنّ أن أحدًا يُعذر بعد خدمة الاتصالات الحديثة، فرحم الله عبدًا يصِل رحمه وإن قطعوه، يتعهَّدهم بالزيارة أو الاتصال، ويتخوَّلهم بالهدية وإن جفوه، يقول : ((ليس الواصل بالمكافئ، وإنما الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها))، وجاء رجل فقال: يا رسول الله، إن لي قرابةً أصلهم ويقطعوني، وأُحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلُم عنهم ويجهلون عليَّ، قال : ((لئن كنت كما قلتَ فكأنما تُسفّهم الملَّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك)).
فهنيئًا لقريبٍ أعان على صلته بقبول العذر والصفح والعفو والتغاضي عن الهفوات والتغافل عن الزلات، إن أحسنَ فلا يمنّ، وإن أعطى فلا يضِنّ، لا يعرف السباب، ولا يُكثر العتاب، فليست تدوم مودةٌ وعتابُ، يتجنَّب المراء والجدال، ويحسن الأقوالَ والفعال، يشارك أقاربَه آلامهم وآمالهم، ويشاطرهم أفراحهم وأتراحهم، مفتاحٌ لكل خير، مغلاق لكل شرّ، ينصح ولا يفضح، ويستر ولا يعيِّر، وفي ذلك ذكرى للذاكرين وعبرة للمعتبرين.
هذه ـ عباد الله ـ شمس العيد قد أشرقت، فلتشرق معها شفاهكم بصدق البسمة، وقلوبكم بصفاء البهجة، ونفوسكم بالمودة والمحبة، جدّدوا أواصر الحب بين الأصدقاء، والتراحم بين الأقرباء، والتعاون بين الناس جمعاء.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
أيها المسلمون، أذكركم بوصية الرسول لكم في آخر لحظات حياته: ((الصلاة الصلاة))، حافظوا عليها واحفظوها، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وهي عمود الإسلام، وصلة بينكم وبين الرحمن، فحافظوا عليها في أوقاتها جماعةً، واعتنوا بها، ولتكن من أهمّ أموركم، فإنها علامة حب الإسلام.
أيها المسلمون إياكم والربا؛ فإنه يمحق البركة ويدخل صاحبه النار، فعنه : ((الربا نيف وسبعون بابًا، أهونها مثل أن ينكح الرجل أمه)).
وإياكم والزنا فإنه عارٌ ونارٌ، وعذاب وذلة وصغار، قال الله تعالى: وَلاَ تَقْرَبُواْ ٱلزّنَىٰ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً، وفي الحديث: ((ما من ذنب أعظم عند الله من أن يضع الرجل نطفته في فرج حرام)).
أيها الشباب والفتيات، إن الصداقات والحب على وجه اللقاء والمكالمات والخيانة بين الجنسين محرم في الإسلام، قال تعالى: فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ، فالحذار من الخيانة، واعلموا أن المكالمات والمواعدات معصية عظيمة وهي وسيلة الزنا ومقربة إليه، والله يقول: وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَا، ولم يقل فقط: ولا تزنوا، بل كلّ ما قرب للزنا ووسيلة إليه فهو محرم.
أيها الشاب، اتق الله، فما تفعله ببنات الناس اليوم قد يقضيه الله من عرضك غدا؛ من أختك، من زوجتك، من بنتك، والحياة سلف ودين، فاحذر من دروب الغواية. وهل ترضى أن يفعل شاب آخر بأحد من قريباتك ما تفعله ببنات الناس ولو كانت هذه الفتاة خبيثة؟!
واعلمي ـ أيتها الفتاة ـ أن من يخدعك اليوم بمعسول الكلام ويسمعك أجمل العبارات لهو نذل خسيس لا يتشرف بك غدا، فإياك والعار ودروب العار، وإياك والحرام وسبل الحرام، وابتعدي عن هذا الطريق، وعليك بالصالحات، واحذري قرينات السوء الذين يشجعون على هذا الطريق، فما مصيره إلا الخراب، واحذري الهاتف والجوال، واحفظي عرض أبيك وإخوانك وأعمامك، واجعلوا رؤوسهم مرفوعة بطهرك وعفافك، ولا تحومي أو تقربي من الردى فتردي. وإن كنت قد تورطت بشيء من هذا في أي مرحلة منه فصارحي أبويك خير من التمادي فيه.
واعلموا ـ أيها الشباب ويا أيتها الفتيات ـ أنكم وإن استترتم عن أعين الخلق ومسامعهم فأين الله؟! ألم تعلموا أن الله رقيب عليكم؟! ألم تعلموا أن معكم من الملائكة من يحصي عليكم؟! فاجعلوا الله عظيما في قلوبكم.
إذا ما خلوت الدهر يومًا فلا تقل: خلوت ولكن قل: علي رقيب
ولا تَحسبـن الله يغفـل ساعـة ولا أن ما يَخفـى عليه يغيب
عباد الله، وإياكم والمكاسب المحرمة من الرشاوى وأموال الضعفاء والأيتام وأوقاف المسلمين والغش؛ فإن ذلك ما خالط مالاً إلا أفسده، ولا دخل بيتًا إلا دمره ونكده. كم من الناس لا يتورع في الكسب الحلال، بل يلجَأ إلى ظلم النّاس بالشّتم والقذف وشهادة الزّور والحلف الكاذب والضرب والقتل لِيحصّلوا على شيء من حطام الدنيا، ويعدّون تحصيل ذلك شرفًا وربحًا، وهو في الحقيقة خسة وإفلاس وخزي وندامة يوم القيامة، ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله قال: ((إن المفلسَ من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي قد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا، فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته، حتى إن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرح عليه ثم طرح في النار)). فاقنعوا بالحلال عن الحرام، وتوبوا إلى الله من المظالم والآثام.
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر ولله الحمد.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بهدي سيد المرسلين وبقوله القويم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه.
|