أيها المسلمون، بارك الله لكم في عيدكم، ونسأله تعالى أن يعيده علينا جميعًا ونحن في صحة وعافية قد زادنا مالاً وبنينًا وإيمانًا ويقينًا.
وقبل أن أدلف إلى خطبتي أزفّ لكم هذه البشارة كي تجلسوا مطمئنّين مسرورين، فروي عن سعيد بن أوس الأنصاري عن أبيه قال: قال رسول الله : ((إذا كان يوم عيد الفطر وقفت الملائكة على أبواب الطرق ينادون: اغدوا ـ يا معشر المسلمين ـ إلى ربّ كريم، يمنّ بالخير ثم يثيب عليه الجزيل، لقد أُمرتم بقيام الليل فقمتم، وأمرتم بصيام النهار فصمتم، أطعتم ربّكم، فاقبضوا جوائزكم، فإذا صلّوا نادى منادي: ألا إن ربكم قد غفر لكم، فارجعوا راشدين إلى رحالكم، فهو يوم الجائزة، ويسمى في السماء يوم الجائزة)) رواه الطبراني، وفي رواية: ((فإذا برزوا إلى مصلاهم قال الله: يا ملائكتي، ما جزاء الأجير إذا عمل عمله؟ قالوا: إلهنا وسيدنا، أن توفّيه أجره، قال: فإني جعلت ثوابهم من صيامهم وقيامهم مغفرتي ورضواني، وعزتي لا يسألوني في جمعهم هذا للآخرة شيئًا إلا أعطيتهم، ولا لدنياهم إلا نظرت لهم، انصرفوا مغفورًا لكم))، فأبشروا وأمّلوا خيرًا من ربكم.
إنّ يومكم هذا يوم أكل وشرب وشكرٍ لله وذكر، يوم فرح وسرور للمؤمنين الصائمين القائمين المتطهرين بزكاة الفطر. نعم، يومٌ نفرح فيه، وتعلو قلوبنا فيه البهجة والسرور، وتغمرنا فيه السعادة والحبور، نفرح ونُسر حين أتممنا شهر رمضان وأتممنا صيام أيامه وقيام لياليه الثلاثين، نفرح لأن الله أمهلنا وأمدّ بأعمارنا حتى أدركنا هذه الساعة الجميلة ونحن نرى الموت يتخطّف الناس من حولنا، فكم قريبٍ فقدناه، وكم صديقٍ فارقناه، وكم جارٍ دفناه في هذا الشهر فقط، 250 جنازة في مغسلة الراجحي، ومثلها في مغسلة الدريهمية، فيهم الشباب والأطفال والرجال والنساء، فحقيق بنا أن نفرح بفضل الله ورحمته، قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ.
ولكن حذار حذار ـ عباد الله ـ أن نفرح فرحَ قارون فيخسف الله بنا، ففرحه أورثه الكبر والأشر والغطرسة والإفساد في الأرض، إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ أي: الصالحون من قومه لاَ تفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْفَرِحِينَ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ [القصص:77].
الفرح الحقيقيّ المشروع يكون بالتواضع لله الحق وللخلق، يكون بإدخال السرور على المحاويج والأقارب والمسلمين، نفرح بمسح رأس اليتيم، نفرح بتصفية النفوس من أضغانها وتطهّرِ القلوب من أمراضها من الحسد والحقد والغش، نفرح بالعفو عن كلّ من ظلمنا من إخواننا المسلمين أو أخطأ علينا، الفرح يكون بصلة الأرحام والتزاور بين الأقارب والجيران، نفرح باللعب المباح والنزهة الطيبة السليمة، هذا هو الفرح الذي يبقى وتظهر آثاره.
إن الفرح السرور والسعادة والحبور هبة من الله ومنَّة، فمن أرادها فليقبل على الله الشكور، فهو ربها ورب القلوب القوالب لتلك المشاعر، فأتمروا بأمره تَسعدوا، واجتنبوا نهيه تفلحوا، وتمسّكوا بشرعه وهدي نبيّه تُسرُّوا وتطمئنوا، وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ. وعليه فليس الفرح في ذات المسرحيّات ولا في ذات المهرجانات ولا في ذات الألعاب النارية، فهذه مجرّد أسباب تُفلح في إحداث الفرح وقد تخيب، إنما الفرح في الأمن والشّبع ورغد العيش، وإلا فلو كنّا في خوف لأرهبتنا هذه المفرقعات بأصواتها ولأفزعتنا. هي على أصحابها ترة وحسرة إن لم تكن محوطة بشرع الله وهدي نبيّه خالية من المفاسد والآثام كالاختلاط والمعازف وإضاعة الصلوات والإسراف والتبذير ونحوها.
أيها الأحبة، ثمةَ حقيقةٌ يجب الإقرار بها، وهي أن العيد لله كما أن رمضان لله، بل الحياةُ كلها لله، قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فلا ينبغي أن نفرح بما يُسخط الله فنكون كمن قال الله عنهم ذامًا لهم: ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ [محمد:28].
ومن صوَر ما يُسخط الله الإسراف والتبذير في المآكل والاحتفالات والملابس، يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، فنهانا الله عن الإسراف في الثلاثة سواء، فإن كنتم تحبون الله فإنه لا يحبّ المسرفين. ومنها التبرج والسفور من أخواتنا الكريمات المسلمات وإظهارهن لزينتهن ومفاتنهن. ومنها غشيان أماكن اللهو والغفلة وأماكن الشر والفتنة.
أيها الأحبة، إن انتهى ميدان السباق الجماعي فإنه قد بدأ ميدان السباق الفردي، فالصوم لم ينته مع رمضان، بل قد رغبنا الله في صيام الست من شوال وأنها مع صيام رمضان تعدل صيام السنة كلها، فلا يتركها ـ والله ـ إلا محروم. وكذا القيام، فإنه إن توقف جماعةً فلا نتركه فرادى ولو ركعة واحدة بعد العشاء مباشرة أو قبل النوم، فيكتبنا الله من القائمين. وتعاهدوا كتاب ربكم، واقسموا له من أيامكم وردًا لا تتركوه، فإن في ذلك سلامة من الفتنة والجهل. وإياكم أن تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا أي: غزلت لها صوفًا فلما لم يبق منه إلا القليل تركته وأهملته أو عادت عليه بالنقض، ومثلها من بنى بيتًا ثم لم يكمله فتركه حتى أفنته الرياح. واعملوا أنكم في شهركم قد غرستم غرسًا شيّدتم قصورًا، فتعاهدوها ولا تهملوها.
يا أهل العيد والمحفل، إن يوم العيد يوم من أيام الله، تظهر فيه شعيرة عظيمة من شعائر دينه، فكان لزامًا التذكير بشيء من مظاهر الإسلام وشعائره العظام؛ حتى نُعلنها ونظهرها ونتصف بها في حياتنا كلها.
فأعظم شعيرة هي تلك الصلاة المكتوبة المفروضة جماعة على الرجال في المساجد وعلى النساء في بيوتهن، وهي ـ والله ـ الصلة بين العبد وربه، فهي الركن الثاني من أركان الإسلام، وبدونها لا يكون المرء مسلمًا، ومن حافظ عليها كانت له نورًا وبرهانًا ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورًا ولا برهانًا ولا نجاة يوم القيامة كما جاء في الحديث. الصلاة ـ ورب الكعبة ـ أنسٌ وراحة ونزهة للقلب وسعادة، وما حُرمها إلا محروم، وهي ترتيب للأوقات، ومن فرط فيها كان فوضويًا عابثًا بالحياة، وقد ذكر الله لنا حال أهل النار وأظهر لنا في كتابه شيئًا من مناقشته لهم: مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ، وقد أمرنا الله بالمحافظة عليها بقوله: حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ.
ومن شعائر الإسلام ومظاهره العظام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كلٌ بحسب طاقته وقدرته، ولا يعذر أحد بتركه كلّية، ففلاح الأمة في الدعوة والحسبة، وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [آل عمران:104]، بل إن خيرية هذه الأمة بين الأمم مقرونة بهذه الشعيرة: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ. فيجب أن نعلنها وأن نظهرها خفاقة، فنأمر ونعِظ ونذكّر وننهى ونمنع ونمسك على يد السفيه. وللنهي عن المنكر ثلاث مراتب يعذرنا الله بحسبها: ((من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده))، وهذا لا يكون إلا لرب الأسرة مع أهله وللرئيس مع مرؤوسيه وللأمراء والحكام ومن تولى ولايةً كأهل الحسبة، ((فإن لم يستطع فبلسانه)) أي: بالوعظ والتذكير والتخويف من الله، ويدخل فيها الكتابة لمن يقدر من المسؤولين وأولياء الأمور وفقهم الله وسددهم، ومن منا لا يستطيع ذلك؟! ((ومن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان))؛ بأن تكره المعصية وتتمنى زوالها ولا تبقى عندها إلا لعذر. وإن عطلنا هذه الشعيرة وأهملناها وخَوَّفْنا أنفسنا وخَوّفَنا الشيطان بأوليائه شاع الفساد في الأرض وحلت عقوبة الله تعالى، فعن حذيفة بن اليمان عن النبي : ((والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابًا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم)) رواه الترمذي وقال: "حديث حسن".
ومن مظاهر الإسلام الولاء للمؤمنين أينما كانوا والبراءة من الكفار والمشركين أينما كانوا، والعيد من أعظم المناسبات التي لا بد من إبراز الولاء فيها للمؤمنين، فيجب التراحم وإفشاء السلام والتواد والمحبة بين المسلمين والمشاركة في الأفراح والأحزان والمناصرة للمظلومين ولو بالدعاء، مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا [الفتح:29]. فلا بد مع هذا أن تبغض وتعادي الكفار كلهم والمحاربين منهم خاصة، ونبغض عباداتهم ومعبوداتهم، قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ [الممتحنة:4].
وبغضها للكفار ـ أيها الكرام ـ ليس من أجل ذواتهم أو من أجل جنسياتهم، لا، بل من أجل بغض الله لهم ومن أجل عداء الله لهم، مَن كَانَ عَدُوًّا لِّلّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ [البقرة:98].
ومن مظاهر هذا الدين الإلهي العظيم الزواج، فلا يتم الاتصال بين الجنسين ولا يكون التكاثر في الأرض إلا بالزواج الشرعي المكتملة شروطه وأركانه، وشروطه الولي وشاهدا الحال، ولا بد من إعلانه وإظهاره.
فيا معشر الشباب، عليكم بالزواج؛ فإنه أحصن للفرج وأغض للبصر وأكمل للدين وأجمع للقلب، وقد وعد الله بإعانة من نكح يريد العفاف: وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [النور:32]، كما أخبر الرسول بقوله: ((ثلاثة حق على الله عونهم))، وذكر منهم: ((وشاب نكح يريد العفاف))، ومن أصدق من الله قيلاً وحديثًا؟! ومن أوفى منه تعالى عهدًا؟!
ويا معشر الأولياء آباءً وأمهاتٍ، اتقوا الله في فتياتكم وفي الشباب، فيسروا ولا تعسروا، وأقلوا ولا تكثروا، فرحم الله من عال جارتين فأدبهما وأحسن تأديبهما ثم زوجَهما بكفأين صالحين، بل سيكونان له حجابًا من النار، واقتدوا بأولئك الرجال الأخيار الذين يسارعون لتزويج أولادهم بنين وبنات إعفافًا لهم وبرًا بهم وخوفًا من الفساد، وحثوا أولادكم على الزواج وأعينوهم فإنَّ في ترك الزواج وتأخيره شرًا عظيمًا وفسادًا عريضًا.
أسأل الله أن يديم علينا نعمه وأن يلهمنا شكر آلائه، وأستغفر الله لي ولكم وللمسلمين.
|