أمّا بعد: فأوصيكم ـ أيها النّاس ـ ونفسي بتقوَى الله عزّ وجلّ، فاتَّقوا الله رَحمكم الله، فمَن أحبَّ صلاحَ الحال فليصلِحِ الأعمال، ومن سرَّه أن تدومَ عافيتُه فليتَّقِ الله ربَّه، ولا يعرِفُ الزيادةَ مِنَ النقصان إلاَّ من حاسبَ نفسَه، قال بعض السلف: "إذا رأيتَ تكديرًا في الحال فاذكر نعمةً ما شُكِرت أو زلَّةً قد فعِلَت، واحذَر من نَفادِ النِّعَم ومفاجأةِ النِّقَم، فمن صفا صُفِّيَ له، ومن كدَّر كُدِّر عليه، اقرؤوا إن شئتم: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [الأنفال:53]".
أيّها المسلمون، مع متغيِّرات الزّمَن وتقلّبات الأحوال ومُثيرات الشَّهَوات وفِتَن الشّبهات ثمّ مع حلولِ مواسمِ الخيرات وفُرَص النَّفَحات كَم قلوبُ العباد بحاجةٍ لذكرى وعِظات، تلين لها قلوب المخبِتين، وتَرِقّ لها أفئدة الخاشعين، وتنقشع بها غيوم الغفلة عن الغافلين، وترتفع بها سَواتِر الحجُب عن اللاّهين والسادِرين. أين يفِرّ الفارّون من الله وكلُّهم في قَبضَتِه؟! وكيف يُشكَر غَيرُ الله وما بِالخلائق من نِعمةٍ فمن جودِه وكَرَمِه؟! وإلى مَن يلجَأ الخائفون وكلُّهم محفوظٌ بعنايتِه ورحمته؟! لو علم القاعدون مَاذا أَضاعوا وكَم أضاعوا، كَم من قريبٍ أبعدَه التباعُدُ، ولا يَزال قومٌ يتأخَّرون حتى يؤخِّرَهم الله.
يا عبدَ الله، لن تجِدَ طعمَ العافية حتى تكونَ على الطاعةِ مقيمًا ولِذِكر الله مُديمًا، فعالِج مرضَ المخالفة بالتوبة، وداوِ داءَ الغفلة بالإنابَة. لا يؤنِس في وحشةِ القبر إلا العمل الصالح، ولا يقِي من عذاب النار بإذنِ الله إلا نورُ الإيمان، ولا تثبُتُ القدم على الصراطِ إلا بالاستقامة على الهدى. من سَلك سبيل أهلِ السلامة سلِم، ومن لم يَقبل نُصحَ الناصحين ندِم. الكرامةُ كرامةُ التقوى، والعِزّ عِزُّ الطاعة، والأُنسُ أنسُ الإحسان، والوحشةُ وَحشة الإساءَة، ومن أحسن الظنَّ أحسن العمَل.
أيّها المسلمون، استعيذوا بالله أن تمرَّ بكم مواسم الخيرات وساعاتُ النفحات ثم لا تَزدادون هدًى ولا ترتَدِعون عن ردى، وحذارِ ثم حذارِ أن يكون المرءُ ممّن طبَع الله على قلبه وعلى سمعِه وجعل على بصرِه غِشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟!
معاشرَ الأحبّة، جعَل الله لبعضِ الأيّام فضلاً ولبعضِ الشّهور منزلة، وأقسم بالعشر، وجعل ليلة القدر خيرًا من ألفِ شَهر، وما مِن مَوسمٍ مِن هذه المواسم الفضيلةِ إلاّ ولله فيه وظيفةٌ من وظائفِ طاعاتِه ولطيفةٌ من لطائف نفحاتِه، يصيب بها من يمنّ عليه بفضله ورحمتِه، والسعيدُ ـ وربِّكم ـ مَن اغتنم مواسمَ الفضل وأيّام البركات ونافَس في الطاعات، فعسى أن يصيبَ نفحةً وبركة يكتُب الله له بها سعادةً لا يشقى بعدَها أبدًا. فأحيوا ـ أسعدكم الله ـ هذه اللياليَ الدّاجية بقلوبٍ خائِفَة راجية وعيون باكِيَة وآذانٍ واعية، واطلُبُوا بهمّةٍ عاليَة سِلعة الله الغالية، فالغنائمَ الغنائمَ قبلَ الفوات، والعزائمَ العزائمَ قبل الندَم والحسَرات. شهرُكم هذا شهر عِمارة المحراب وتلاوةُ الكتاب، تُعمَر فيه المساجد، ويُغبَط فيه الراكعُ والساجد، والحسرةُ للكسول القاعد. أيّامُ خير وفضلٍ وتعبُّد، ترقّ فيها القلوب، وتغفَر فيها الذنوب، وتتجافى المضاجع والجنوب. ألاَ فجدّوا في العمل رحمكم الله، وأَروا الله من أنفسِكم خيرًا، فإنَّ شهركم قد أخذَ في النقص والانصِرام، فمن أحسن فعليه بالتَّمام، ومَن فرَّط فليختِم بالحسنى فإنَّ العملَ بالختام.
وإنَّ مِن أفضل الأعمال أداءَ ما افترضَ الله والورعَ عمّا حرَّم الله وصِدقَ النية في الله، وفي الحديثِ القدسيّ: ((ما تقرَّبَ إليَّ عبدي بشيءٍ أحبّ إليَّ ممّا افترضته عليه)). ومِن بعد الفرائِض يكون التقرُّب بالنوافل والبعدُ عن المكروهَات بعدَ المحرمات، وفي الحديث: ((لا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه)). ومن أحبَّه الله أعانَه على طاعتِه والاشتغال بذِكره، فحصَل له القربى منه والزّلفَى لَديه والحظوَةُ عنده.
ومِن أعظم ما يُتَقرَّب به الصّلاة، فهي الصّلةُ بين العبدِ وربِّه، وأقربُ ما يكون العبدُ مِن ربِّه وهو ساجد، والمصلّي يناجي ربَّه، والمولى عزّ شأنه ينصِب وجهَه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتَفِت.
ومِن أعظم ما يتقرَّب به في هذه الأيام المباركة وفي هذه العشرِ الأخيرة كثرةُ تلاوةِ كتاب الله وسماعِه والتفكّر فيه وتدبّره وتفهّمه، يقول خبّاب بن الأرتّ: (تقرَّب إلى الله ما استطعتَ، واعلم أنّك لن تتقرَّب إلى الله بشيءٍ هو أحبّ إلى الله من كلامِه)، ويقول عثمان: (لو طهُرت قلوبُكم ما شبِعتُم من كلام ربِّكم)، ويقول ابن مَسعود : (مَن أحبَّ القرآنَ فهو يحبُّ الله ورسولَه).
وذِكر الله عزّ وجلّ يَتواطأ على ذلك القلب واللسان مِن أفضل ما يتقرّب به العبد في هذه الأيام المباركة، وفي الحديث القدسي: ((أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ خير منه)) متّفَق عليه، وفي التنزيل العزيز: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ [البقرة:152]. فيا لسعادةَ من لاَ يزال لسانه رطبًا من ذكرِ الله.
وتقرّبوا ـ رحمكم الله ـ بقيامِ الله، فإنَّ من قام رمضان إيمانا واحتِسابًا غفِرَ له ما تقدَّم من ذنبه.
وعَليكم بكثرة الإحسان والصدقة، فقد كان نبيّكم محمّد أجودَ الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان. أخرجه مسلم. ويقول الإمام الشافعيُّ رحمَه الله: "أحِبّ للرّجل الزيادةَ بالجود في شهر رمضان اقتداءً برسول الله ؛ لحاجة الناس فيه إلى مصالحهم، ولتشاغل كثير منهم بالصوم والصلاة عن مكاسبهم"، و((من فطَّر صائما كان له مثل أجره، غيرَ أنه لا يُنقِص من أجر الصائم شيئا)) أخرجه أحمد.
أما الاعتكاف ـ رحمكم الله ـ فيكاد أن يكونَ من خصائص هذه العشر المباركة، فقد كان نبيكم محمد يعتكف في العشر الأواخر من رمضان كما أخرج ذلك مسلم في صحيحه، ويقول الإمام الزهريّ: "عجبًا للمسلمين! تركوا الاعتكافَ مع أنَّ النبيّ ما تركه منذ قدِم المدينةَ حتى قبضه الله عز وجل".
عبادَ الله، ومما يجمع لكم ذلك كلَّه طهارةُ القلب وسلامة الصدر؛ مما يورث محبة الله ومحبة عباده؛ فإنك ترى أقوامًا طُهرًا بريئةً أيديهم طاهرة قلوبهم يتحابّون بجلال الله، ينيبون إلى ذكرِه، ويغضبون لمحارمه، ويتلطَّفون مع عباده، تمتلئ قلوبهم بمعرفةِ ربهم وخشيتِه وعبادتِه ومحبته وتعظيمه ومهابته وإجلالِه والأنس به والشَّوق إليه، قال بعض السلف: "تعوَّدوا حبَّ الله وطاعته؛ فإنَّ المتقين ألِفوا الطاعة فانصرفت جوارحهم عن غيرها". قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "وهذا هو سرُّ التّوحيد ومعنى لا إلهَ إلاَّ الله، فلا يُؤَلَّه غيرُ الله حبًّا ورجاءً وخوفًا وطاعَة، فإذا تحقَّق القلبُ بالتّوحيد التامّ لم يبقَ فيه محبّةٌ لغير ما يحبه الله، ولا كراهةٌ لغير ما يكرهه الله، ومن كان كذلك لم تنبعث جوارحه إلا بطاعة الله، وإنما تنشأ الذنوب من محبة ما يكرهه الله أو كراهة ما يحبه الله، وذلك ينشأ من تقديم هوى النفس ومشتهاها على محبة الله وخشيته، وذلك يقدح في كمال التّوحيد الواجب، فيقع العبد بسبَب ذلك في التفريط في بعض الواجبات وارتكاب بعض المحظورات" انتهى كلامه رحمه الله.
ألا فاتقوا اللهَ رحمكم الله، فشهركم هذا نفيس، لا قيمةَ له فيباع، ولا يستدرَك منه ما ضاع، لقد جدَّ الجادّون، فلا ترضَوا لأنفسكم بالدون. اعملوا وجِدّوا وشمّروا حسبَ الطاقة والاستطاعة، فمن عجز بالليل كان له بالنهار مُستَعتَب، ومن عجز بالنهار كان له بالليل مستَعتَب. والمؤمن العاقل المحاسبُ نفسَه قد ينسى بالليل ويذكر بالنهار، وينسى بالنهار ويذكر بالليل، ولقد جاء رجل إلى سلمان الفارسي رضي الله عنه وقال له: لا أستطيع قيام الليل، قال: فلا تعجَز بالنهار. والمغبون من غُبِن خيرَ الليل وخير النهار.
فاستودِعوا أيَّامَكم هذه الصالحات، فإن العمرَ منتَقَص وزائِل، ولا تفوتكم الفرَص، فيا ويلَ الغافل، متى يُغفَر لمن لم يغفر له في رمضان؟! ومتى يشفَى قلب من لم تُشفِه آيات القرآن؟! ومن أنفَعِ أيام المؤمن ما ظنَّ أنه لا يدرِك آخره، وحقيقة الزهدِ قِصَر الأمل، والموت معقودٌ بالنواصي، والدنيَا تطوَى من ورائكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنْ الصَّالِحِينَ وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ [المنافقون:9-11].
نفعني الله وإيّاكم بالقرآن العظيم وبِهديِ محمّد ، وأقول قولِي هذا، وأستَغفِر اللهَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين مِن كلّ ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
|