جاءت امرأة من الأنصار تدعى أم خلاد، جاءت تبحث عن ولد لها قتل في إحدى الغزوات، تبحث عنه بين الجثث، وكانت محجبةً منقبة، لا تظهر منها إلا عين واحدة، فتعجب الصحابة واستغربوا وقالوا لها: يا أم خلاد، كيف تبحثين عن ولدك بين جثث القتلى وبك ما بك من الحزن عليه ولا زلت تنتقبين؟! أما دفعك حَرّ المصاب وألم الفراق إلى أن تخلعي عنك حجابك؟! فماذا كانت إجابة المؤمنة التي تخرجت من مدرسة الحبيب محمد ؟! قالت: يا إخوتاه، إن أُرزأ في ولدي وفلذة كبدي فلن أُرزأ في إيماني وحيائي.
الله الله الله يا إخوتاه، إن أرزأ في ولدي وفلذة كبدي فلن أرزأ في إيماني وحيائي.
يـا سيد الأبـرار أمتـك الْتَوَت في عصرنا ومضت مع التيارِ
شربت كؤوس الذلِّ حيـن تعلقت بثقافة مسمومـة الأفكـارِ
إني أراهـا وهي تسحـب ثوبهـا مَخدوعةً في قبضة السمسارِ
إني أراهـا تستطيـب خضوعهـا وتليـن للرهبان والأحبـارِ
إني أرى فيهـا مـلامـح خطـة للمعتديـن غريبة الأطـوارِ
اللهم صل على سيدنا محمد الذي صَليتَ عليه قبل أن يصلى عليه أحد من العالمين، وأرسلته رحمة للعالمين، اللهم اجعلنا بالصلاة عليه من الفائزين، وعلى حوضه من الواردين، وبيديه الكريمتين من الشاربين، وبسُنتهِ من العاملين، ولا تَحُل بيننا وبينه يوم الدين، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بِقلب سليم، وعلى إخوانه من الأنبياء والمرسلين، وعلى أزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تَبِعَهُمْ بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد: فيا حماة الإسلام وحراس العقيدة، العلماء في الإسلام هم من الأمة بمنزلة السمع والبصر، في ظلمة الطريق وهدأة الوحشة يستهدي بهم الناس، كشِعرى يضيء في ليل ضن فيه القمر بنوره. ويوم تخلو الأمة الإسلامية من قيادة لائقة ترنو الأبصار جميعها إلى حملة الرسالة وحراس الشريعة، أنوار لهم العيون شاخصة، ومشاعل لها السواعد رافعة. وحين تداهمنا الملمات في إثر بعضها نفيء إلى ظلال علمائنا الوارفة، نتقي بها حر الهجير.
قبل أيام تجاسر الرئيس الفرنسي "شيراك" على حجاب الصغيرات المسلمات المؤمنات العفيفات الطاهرات، نظر "شيراك" إلى الحجاب على أنَّ ارتداءَه في المدارس إرهاب، رأت دولة الحرية والعدل والمساواة أن الحجاب تهديد لعلمانية فرنسا!
وإذ تناهت إلى أسماع معظم علماء الأمة أنباء هذا الحيف الفرنسي بحق الفتيات الصغيرات فقد تمنيت قبل أن يقر القانون في البرلمان، تمنيت أن يعمد وفد من علمائنا الأفاضل إلى طرق أبواب قصر الإليزيه؛ لينقلوا إلى ردهاته وإلى ساكنيه غضبة هذه الأمة لكشف ضفائر المسلمات العفيفات. تمنيت وأنا أعلم أن علماء الأمة تكبلهم قيود كثيرة ليس أقلها التضييق الممارس على تحركاتهم وانطلاقتهم، لا أقلها رجاء كثير من أنظمة حكمهم أن يستلهموا حكمة "شيراك" في دولهم المسلمة. تمنيت ونحن نجتر ذكريات وفد العلماء إلى طالبان لبحث قضية تمثال بوذا العملاق في إمارة أفغانستان يومها، كان للوفد الذي قطع آلاف الأميال رؤيته التي لم نطمئنّ إليها، ولكننا ما أسأنا بهم الظنون.
واليوم ألا تستحق فجيعة ثلث مسلمي أوروبا ـ 5 ملايين مسلم مقيم في فرنسا من بين 15 مليونا يقيمون في أوروبا كلها ـ، ألا تستحق فجيعتهم تشكيل وفد كبير من علماء اليمن والحجاز ومصر والشام والعراق والمغرب العربي وغيرهم لقطع مسافة تقل كثيرا عن مشقة السفر إلى أفغانستان؛ لإيصال احتجاجنا القوي على الفعلة الفرنسية النكراء؟! وقد يستجيب "شيراك" وشيعته أو لا، لا غرو؛ لكن هذا الوفد لا شك سيزلزل قصر الإليزيه أو سيردع غيره أو لا، فتكفينا منه حينئذ كرامة المحاولة.
ولكن للأسى والأسف الشديدين تجرعنا المرارة من هذا القانون الظالم، ولكن مرارته لم تكن أشد من تلك المرارة التي تجرعناها عندما انبرى شيخ الأزهر يبرّر لفرنسا ظلمها وجورها وعدوانها على العفاف، ويعطيهم الحق في وأد الفضيلة، ويفتي العفيفات المسلمات بالاستجابة لهذا القانون وخلع رداء الحياء؛ لأنهن قد أصبحن في حكم المضطرّ.
أيها الأحبة، فيما كان يعاني المسلمون هول الصدمة؛ إذ استل شيخ الأزهر فتواه فطعن بها أفئدة الملهوفين على عورات المسلمات في فرنسا. فيما كانت صغيرات المسلمات في بلاد الغال يستصرخن شيخ الأزهر حفظ شعورهن عن أعين الغرباء، ويصرخن وامعتصماه؛ إذ ارتدّ صدى صوتهن من شيخ الأزهر لهيبا إلى صدورهن.
ألفنا فتاوى المسلمين على مرّ العصور فتاوى شرعية، إلى أن لاقيناها في آخر زمانهم فتاوى ديبلوماسية, وتلك أسمى درجات العبقرية! فلئن كان الحجاب عصيا على رؤوس النساء، فثمة من هو به خليق، فليحتجب من خذلنا ونأى بجانبه عن جادة طريق العفاف الكريم.
إن الحجاب ستر لعورات النساء، وهو كذلك ستر لأناس لا يأبهون بالحرمات المستباحة. لقد قال مؤرخ أجنبي في يوم ما: "من لم يذهب إلى مصر ما عرف مجد الإسلام ولا عزه؛ لأن فيها الأزهر"، يوم كان رأس قمة الأزهر يذبّ عن حياض الدين، ولكن عظم الله أجركم ـ أيها المسلمون ـ في الأزهر وفي شيخ الأزهر.
أيها الأحبة المؤمنون، هل أتاكم نبأ الوفد السيخي الذي ذهب يحث الخطى إلى فرنسا محتجًا على إدراج العمامة السيخية ضمن القرار؟! هل عمامتهم أولى من حجاب العفيفات؟! هل عمامتهم أعز من عفاف المؤمنات؟! هل باطلهم أقوى من حق الفضيلة؟! لا، لا، ولكنهم يعتزون بباطلهم في وقت تخلى المسلمون عن دينهم وحقهم.
أيها المؤمنون، أيتها المؤمنات العفيفات، لماذا الحجاب؟! لماذا الحجاب بالذات هو المستهدف في أوروبا؟! أتعلمون لماذا؟ أتدرون لماذا الحجاب؟ لأن الأسرة المسلمة هي اللبنة الأساسية في بناء المجتمع الإسلامي، وحجاب المرأة جزء هام من هذه اللبنة يصونها من غوائل السوء، ويحفظها من لصوص الأعراض، ويقي حياءها من الخدش، ويحفزها إلى نقاء الروح وصلاح النفس، كما يحفظ شخصيتها من الذوبان في المجتمعات الأخرى، لهذا كان الاستعمار شديد الحرص على نزع حجاب المسلمات ليصل إلى ما يتمناه من تلك المجتمعات المسلمة.
قال المرحوم محمد طلعت في كتابه: "المرأة والحجاب": "إن رفع الحجاب والاختلاط كلاهما أمنية تتمناها أوربا من قديم الزمان، لغاية في النفس يدركها كل من وقف على مقاصد أوربا بالعالم الإسلامي".
وفرنسا بالذات قبل غيرها من دول أوروبا هي من يتولى كبر هذه المؤامرة، فمنها تخرج رفاعة الطهطاوي الذي بدأ إثر عودته إلى مصر يمهد للتبرج والاختلاط، وينفي أن يكون ذلك داعيًا إلى الفساد، وكان معجبًا بمراقصة الرجال للنساء، معتبرًا ذلك فنًا من الفنون، غَير خارج عن قوانين الحياء. وعلى أرضها درج مرقس فهمي الذي طالب بالقضاء على حجاب المسلمات، ودعا إلى الزواج بين المسلمات والأقباط. وفيها نبتت الأميرة نازلي فاضل، فوثقت علاقتها مع "اللورد كرومر"، وفتحت ناديها لسعد زغلول وقاسم أمين وغيرهما لتنظيم جهودهم ضد الآداب والتقاليد الإسلامية. وفيها نشأت هدى شعراوي التى كانت أول مصرية مسلمة تتمرد علانية على أحكام الله فتخلع الحجاب، وتنشط في تكوين "الاتحاد النسائي المصري" الذي يدعو إلى منع تعدد الزوجات وتقييد الطلاق وإلغاء بيت الطاعة. ومنها انطلق قاسم أمين الذي لقبوه بـ"محرر المرأة"! فكان بمثابة قنبلة فجرت في عالم المرأة كل شيء بما نشره في كتابَيه: "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة" من دعوة إلى رفع الحجاب؛ لأنه يحول بينها وبين العالم الحي، ويجعلها لا ترى ولا تسمع ولا تعرف إلا ما يقع في عالمها الضيق من سفاسف الأمور. وعلى ثراها درجت أمينة السعيد التي تأثرت بطه حسين أشد التأثر، وراحت تُهاجم المحجبات، وتزدري الحجاب، وتتطاول على قانون الأحوال الشخصية، وتحرض النساء على النشوز والفتيات على الانحلال. وفي كنفها ترعرعت نوال السعداوي التي تزعم أن الحجاب استعباد للمرأة وإذلال لها، وتطالب بانتساب الإنسان لأمِّهِ لا لأبيه؛ لأن الأبوة على زعمها مشكوك فيها دائمًا! وتقول: لنفرض أنني سافرت على باخرة، وصادف أن يكون في غرفتي رجل يحجز سريرًا في نفس الغرفة، ماذا أفعل؟ هل أترك له الحجرة؟! لا، لا بد أن أكون متمردة على كل القيود، وواثقة بنفسي. ومن ثقافتها نهل جميل صدقي الزهاوي الذي يقول في مقال له في مجلة المؤيد العراقية: "ليست المرأة المسلمة مهضومة من جهة واحدة، بل مهضومة من جهات عديدة.
ولو كان رمحًا واحدًا لاتَّقيتهُ ولكنه رمحٌ وثانٍ وثالثُ
فهي مهضومة لأن عقدة الطلاق بيده يحلها وحده، وهي مهضومة لأنها لا ترث من أبويها إلا نصف ما يرثه أخوها الرجل، وهي مهضومة لأنها وهي في الحياة مقبورة في حجاب كثيف يمنعها من شمِّ الهواء، ويمنعها من الاختلاط ببني نوعها والاستئناس بهم والتعلم منهم في مدرسة الحياة الكبرى، وليست المرأة المسلمة مهضومة في الدنيا فقط، بل هي مهضومة كذلك في الأخرى"، وأرجع تخلف المسلمين علميا إلى حجاب النساء، ودعا إلى كسر سلاسل العادات ورفع الحجاب، وختم مقاله بقوله: "أَخَّرَ المسلمين عن أمم الأرضِ حجابٌ تشقى به المسلمات"، ثم نظم قصيدة قال فيها:
اسفري فالحجابُ يا ابنة فهر هو داء في الاجتماعِ وخيم
واعتبر حجب النساء غيًا، فقال في قصيدة له بعنوان: "ابنة يعرب":
القـوم يـا ابنة يعـربٍ من جهلهم وأدوكِ وأدا
حجبوكِ عن أبناءِ نوعِكِ حاسبيـن الغيَّ رشـدا
ثم ازدادت وقاحته وجرأته في قصيدته التي أعلن فيها حربه على الحجاب وتحريضه على السفور الذي اعتبره عنوان الطهر والعفاف، فقال:
مزقي يا ابنة العراق الْحجابا واسفري فالحياة تبغي انقلابا
مزقيـة وأحرقيه بلا رَيْـثٍ فقد كان حارسًـا كذابـا
زعموا أَنَّ في السفور سقوطًا في الْمهاوي وأَنَّ فيه خرابـا
كذبوا فالسفور عنوان طهرٍ ليس يلقـى مَعَرَّةً وارتيابـا
وعلى نهج فلاسفة وأدباء فرنسا سار معروف الرصافي الذي قال في قصيدة له بعنوان: "التربية والأمهات"، اتهم فيها المجتمع المسلم بقبر البنات قبل الممات، ورمى طباع المسلمين باللؤم لحجبهم النساء، وأثنى على الأعراب الذين تبرز نساؤهم حاسرات بحكم البداوة التي يعيشون فيها، فقال:
لئن وأدوا البنات فقد قبَرنا جميع نسائنا قبل الممـاتِ
ولو عدمت طباع القوم لؤمًا لما غدت النساء مُحجبات
وما ضرَّ العفيفة كشف وجه بدا بين الأعِفَّـاء الأُبـاة
فدًى لخلائق الأعراب نفسي وإن وُصِفوا لدينا بالْجُفاة
فكـم برزت بحيِّهِمُ الغواني حواسـرَ غيرَ ما مُتَريِّبَاتِ
وكم خشفٍ بمربعهم وظبْي يَمر على الجداية والمهـاةِ
ولولا الجهل ثَمَّ لقلتُ مرحا لمن أَلِفوا البداوة في الفلاةِ
ولم يقف عند هذا الحدّ، بل ترسَّم خطى صديقه الزهاوي في معظم ما قال، فاعتبر المرأة مظلومة مهضومة الحقوق في كل شيء حتى في الميراث، حيث تأخذ نصف نصيب الرجل، فتستدعي الرحمة والإشفاق، وقد أنشد في هذا:
لم أرَ بين الناس ذا مَظْلِمَة أحقَّ بالرحمة من مسلمـة
منقوصـةٍ حتَّى بِميراثها مَحجوبةٍ حتى عن المكرُمَة
وفي سوريا التي كانت مستعمرة فرنسية مزق رجال البعث الحجاب في شوارع دمشق، ومنعوا المحجبات من دخول المدارس بحجابهن. وفي الجزائر التي استعمرتها فرنسا أكثر من مائة عام دعا ابن بلّة الجزائريات إلى خلع حجابهن، وقال: "إنني أطالب المرأة الجزائرية بخلع الحجاب من أجل الجزائر"، فخرجت العذارى المحاربات من بيوتهن، ونزعن الحجاب لأول مرة منذ أن اعتنقت بلادهن الإسلام. أما المجاهد بورقيبة في تونس فقد بزَّ أقرانه في حرب الحجاب، وأصدر مرسومه الشهير (108) بمنع الحجاب في المؤسسات الرسمية للدولة، ودعا التونسيات أن لا يُشْعِرْنَ السياح الأجانب بالغربة في بلادهن.
أيها الأحبة المؤمنون، أيتها العفيفات المسلمات، هذه هي حلقات المؤامرة على الحجاب، على العفاف، على الحياء، على الفضيلة، فعودوا إلى الله، وتوبوا إلى الله، واستغفروا الله إنه هو الغفور الرحيم.
|