عباد الله، يقول الحق جل في علاه: فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [الأحقاف:25].
نزلت هذه الآية المباركة في عاد، وهؤلاء تكبروا وتجبروا وأفسدوا في الأرض، وقالوا: من أشدّ منا قوة؟! وكانوا ذوي أجسام طوال وخَلق عظيم وقوة شديدة، فاغتروا بأجسامهم، فأرسل الله عز وجل إليهم نبيَّه هودا عليه السلام، ودعاهم لعبادة الله تعالى، وطلب منهم الاستغفار والتوبة، ولكنهم كفروا بآيات ربهم وعصوا رسله واتبعوا كلَّ جبار عنيد.
فماذا كانت النتيجة يا عباد الله؟ لقد أهلكهم الله وأرسل عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات، أرسل عليهم ريحا شديدة البرودة شديدة الصوت والهبوب، فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم، فلم يبق للمكذّبين ديار، فترى المجرمين فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم باقية؟!
عباد الله، ولم يزل الصالحون يعتبرون بمثل هذا، ويذكرونه في حياتهم والعلماء في خطبهم ومقاماتهم، فكان نبي الله سليمان عليه السلام إذا مر بخراب قال: يا خراب الخربين، أين أهلك الأولون؟! وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول: أين بانو المدائن ومحصنوها بالحوائط؟! أين مشيِّدو القصور وعامروها؟! أين جاعلو العجَب فيها لمن بعدهم؟! تلك بيوتهم خالية، وهذه منازلهم في القبور خاوية، هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا؟!
عباد الله، ونحن اليوم أمَا آن لنا أن نتعظ ونعتبر؟! أما آن لنا أن نعود إلى الله؟! أما آن لنا أن نزدجر؟! أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ [الحديد:16]. ألم يحن للذين آمنوا أن تتواضع قلوبهم وتلين لذكر الله والقرآن وما فيه من العبر؟!
وتذكروا ـ يا عباد الله ـ أن قسوة القلب تحصل من اتباع الشهوة، والشهوة والصفوة لا تجتمعان، فإذا حصلت الشهوة رحلت الصفوة.
عباد الله، ذكر ابن مبارك قال: أخبرنا مالك بن أنس قال: بلغني أن عيسى عليه السلام قال لقومه: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله تعالى فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنما الناس رجلان: معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية.
عباد الله، وهذه الآية كانت سبب توبة الفضيل بن عياض وابن المبارك رحمهما الله تعالى، فقد سئل عبد الله بن المبارك عن بدء زهده فقال: كنت يوما مع إخواني في بستان لنا، وذلك حين حملت الثمار من ألوان الفواكه، فأكلنا وشربنا حتى الليل فنمنا، وكنت مولعا بضرب العود والطنبور، فقمت في بعض الليل فضربت العود بيدي لا يجيبني إلى ما أريد، وإذا به ينطق ويقول: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمْ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ، قلت: بلى والله، وكسرت العود، وصرفت من كان عندي، فكان هذا أوّل زهدي وسرت في الطريق إلى الله.
ونحن اليوم ـ يا عباد الله ـ وقعنا في الفساد، كانت الحرب في لبنان مستعرة ومنا من يعيث في الأرض فسادا، فرق الموسيقى إلى منتصف الليل، المفرقعات تضرب في كل ناحية، البذخ والإسراف والتبذير، المقاهي مفتوحة الأبواب، ألعاب الماكنات للأولاد في كل شارع، موائد الخمر والقمار حدّث ولا حرج. ابتعدنا عن الله، ابتعدنا عن ديننا الإسلامي، فماذ حصل؟ مطارق يضرب بها المسلمون، مناجل حصدت الرقاب، رايات حمر لطخت بدماء الأبرياء من المسلمين. امتلأت أماكن الفساد بالناس، وكأن أهل الفساد في أرضنا وفي لبنان ليسوا من أهل ملتنا، ماذا جرى لكم يا أهلنا؟! ألستم أصحاب أرض الإسراء والمعراج؟! ألستم أحفاد سعد وعكرمة وخالد؟! ألستم من سلالة الفاتحين من أمثال صلاح الدين وعز الدين؟!
عباد الله، لما نمنا وغفلنا ولعبنا وطربنا وشربنا وسهرنا سحبت الأرض من تحت أقدامنا سحبا، وأصبحت معاركنا معارك كلام، معارك سباب وشتائم. تركنا كتاب الله إلى كتب ما أنزل الله بها من سلطان، وتركنا حبيب الله إلى رجال أهل باطل وتزوير، هذا يعبد الدينار والدرهم، وذاك يقدِّس البشر، وهذا يحفظ الميثاق، وبنفس الوقت لا يجيد ولا يحسن قراءة آية واحدة من الكتاب المنزل على سيد الأنبياء والمرسلين.
وأما الفضيل بن عياض فكان سبب توبته أنه عشق جارية فواعدته ليلا، فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع قارئا يقرأ: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ، فرجع القهقرى وهو يقول: بلى والله قد آن. فآواه الليل إلى خربة وفيها جماعة من السابلة وبعضهم يقول لبعض: إن فضيلا يقطع الطريق، فقال الفضيل: أواه! أراني بالليل أسعى في معاصي الله، قوم من المسلمين يخافونني، وجعلت توبتي إليك جوار بيتك الحرام.
فأين الذين يعيثون فسادا بالليل؟! أيامكم قليلة، وأعماركم صغيرة، فتوبوا إلى الله، فوالله إن البشر لن يغنوا عنكم من الله شيئا. هؤلاء لا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم، لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون.
عباد الله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، أمير المؤمنين وخليفة المسلمين كان يحاسب الولاة والقضاة والوزراء، وأما اليوم فلا خليفة للمسلمين، ومن ثم فلا رقيب ولا حسيب، فلتان أمني في كلّ مكان، القوي يأكل الضعيف، وللأسف منا من يحارب الله، منا من يأكل الربا ويرتكب فاحشة الزنا، فينا من يسرق وينهب ويسلب، منا من يهتك حرمات وأعراض المسلمين. ولكن تذكروا ـ يا عباد الله ـ أن هناك إلَهًا سيحاسب الجميع وهو القائل: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ [الأنبياء:47]. سيحاسب الله الذين أفسدوا العباد وباعوا البلاد، سيحاسب الله الذين دمّروا الأخلاق وقطعوا الأرزاق وخانوا الله ورسوله وجماعة المسلمين. كلّهم سيقف بين يدي الله، إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا [مريم:93-95].
عباد الله، كتب الصحابي الجليل أبو الدرداء رضي الله عنه إلى سلمان الفارسي وكان النبي قد آخى بينهما، وكان أبو الدرداء بالشام وسلمان بالعراق، فكتب إليه أبو الدرداء أن هلمَّ إلى الأرض المقدسة، فكتب إليه سلمان: (إن الأرض لا تقدِّس أحدا، وإنما يقدّس الرجل عمله الصالح).
صحيح أن أرضنا مباركة وتعيش في رحمة الله وبركته، ولكن تذكروا أن عملكم الصالح وإيمانكم الخالص هو سبيل نجاتكم، هو سبيل خلاصكم وفوزكم في الدنيا والآخرة، فاعملوا ولا تتّكلوا، اعملوا ولا تيأسوا من روح الله، ففرجكم قريب إن شاء الله.
عباد الله، ورد في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله : ((إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس، فإنه أعلى الجنة، وأوسط الجنة، ومنه تفجّر أنهار الجنة)).
|