أمّا بَعد: فيَا أيُّها المسلِمون، أوصيكُم ونَفسِي بتقوَى الله جلَّ وعَلا، ففيهَا السعادةُ والهنَا.
معاشِرَ المسلِمين، مِن نورِ الوَحيَين فَلنَستَلهِم ما يُسعِدُ حَياتَنا ويُضيء لنا طَريقَنا.
ثبَتَ في صَحيح مسلمٍ عنِ النبيِّ فيما يَروِيه عن ربِّه جلَّ وعلا في الحديث القدسيِّ أنَّ الله جلَّ وعلا يقول: ((يا عِبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسِي، وجعلتُه بينَكم محرَّمًا فلا تَظَالموا)).
حديثٌ جَليل يتَوَجّه إلى البشَريّة حين يجورُ بها الطّريق، ويحذِّر الأفرادَ حين يُغرِيها الجشَعُ والطمَعُ العميق. تَوجيهٌ ربَّاني يحذِّر فيه الربّ جلَّ وعلا خلقَه من أن يتَهَارَشوا ويتغَالبوا ويأكلَ قويُّهم ضعيفَهم ويعتَدي كبيرُهم على صغيرهم. توجيهُ إِلَهيٌّ ينبِّه العقلَ أن يزلَّ به الهوَى فيَقَع في الظلم على الضّعَفَاء. وصيةٌ من البارِي جلّ وعلا يسوقها رسولُه المجتبَى ليتحاشَى الخلقُ كلُّهم الظلمَ والعدوانَ والطّغيان، ويتجنَّبوا ظلمَ العباد والتعدِّي على حقوقهم والتَّجنّي على مقدَّراتهم والاعتداء على أنفسِهم وأموالهم وأعراضِهم.
الظلمُ عاقِبَتُه وخيمَةٌ وآثارُه شَنِيعة، يقول شيخُ الإسلام ابنُ تيمية رحمه الله: "عاقبة الظلم وخيمَةٌ، وعاقبة العدلِ كريمة"، ويقول ابنُ القيّم رحمه الله: "أصلُ كلِّ خيرٍ هو العلم والعَدل، وأصلُ كلِّ شرٍّ هو الجهل والظلم".
أيّها المسلمون، لا فلاحَ مع الظلمِ، ولا بقاءَ للظالم، ولا استقرارَ للمعتَدِي مهمَا طالَ الزمان ومهما بلَغ به الشأن، يقولُ ربنا جلّ وعَلا: إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:21]، ويَقول عزّ شأنُه: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:45]، ويَقول عزَّ في عُلاه: هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ [الأنعام:47]؛ ولِذلك فلاَ بقاءَ لقِوَى الظلم والطغيان، ولا سُلطانَ لها يَدوم على مدَى الأزمان، فخالِقُ الأرض والسمَاء يقول سبحانَه: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ [الحج:45]. أخرج البخاريّ أنَّ النبيَّ قال: ((إنَّ الله ليملِي للظالم حتى إذا أخَذَه لم يُفلِته))، ثم قرأ: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].
أيّتُها البشَريّة في كلِّ مكانٍ، مِن مُنطلَق الحقِّ نَدعُو ومِن مَبَادِئ العدلِ والإنصافِ ننادي: إلى مَتى يَعيش العالَم تحتَ ظلمِ القوِيِّ وبَغيِ المعتَدِي؟! فاسمَعي إلى قولِ الخالق عمّا يقوله في حقّ الظالم فرعون: وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ [القصص:39، 40]، ويقول سبحانَه عن شأنِ الظالمِين: وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ [سبأ:19].
إنَّ مِن الظلمِ العَظيم الذي لاَ يقِرُّه دِينٌ ولا يَرتَضيه عَقلٌ سَليمٌ ولاَ واقِعٌ تأريخيّ أن تُعكَسَ المفاهِيم، فيُتَّهَم الإسلامُ بالإرهابِ والفاشِيّة وهو الدينُ الذي قامَت أصولُه وقواعِدُه على مَبادئ السّلام والعدالة والإنصافِ وحِفظ العُهود واحتِرامِ المواثيق؛ حتى صَارَت مِن توجِيهاتِه إبّانَ الحَربِ أن لاَ تُقتَلَ امرأةٌ ولا طِفل ولا شيخٌ ولا راهِب في صومَعَتِه ولا يحَرَّق شَجَر مُثمِر ولا يمثَّل بجثّة ولاَ يُهان أسيرٌ ولا يُخفَر بذِمّة، بينما غيرُ المسلمين يعتَدون ويَصبُّونَ قَنابِلَهم على النّساء الضعيفاتِ والأطفال الأبرياء والشّيوخ الضّعفاء، يحرِّقون ويُدمّرون، فالتّدمير هَدفُهم، وإفسادُ حياةِ الناس مقصدُهم، حتى لم يسلَم من فسادِهم جمادٌ ولا حيوان، فمَن هو ـ يا تُرى ـ الإرهابيُّ حينئذ؟!
معاشرَ المؤمنين، مظالِمُ العباد لا بدَّ من التحلّل منها والتخلّص من عواقبِها، فرسولُنا يقول: ((إذا خَلَصَ المؤمِنون منَ النّار حُبِسوا بقنطرةٍ بين الجنّة والنّار، فيتقاصّون مظالِمَ كانت بَينهم، حتى إذا نُقُّوا وهُذِّبوا أُذِن لهم بِدخولِ الجنّة)) الحديث أخرجَه البخاريّ، وأَخرَج أيضًا عنِ النّبيِّ أنّه قالَ: ((مَن كانَت له مَظلَمةٌ لأخيهِ مِن عِرضِه أو شَيءٍ فليتحلّله منه اليومَ قبل أن لا يكونَ دِرهمٌ ولا دِينار، إن كان له عَمَلٌ صالح أُخِذ منه بقدرِ مظلمته، وإن لم تَكن له حسنات أخِذَ من سيّئات صاحبه فحُمِل عليه)).
معاشِرَ المسلمين، من أعظمِ الظلم وأقبَحِ المعاصي التطاوُلُ على أموالِ اليتامى والاعتداءُ على حقوقِهم، إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء:10].
عبادَ الله، مِن الظلمِ العظيمِ الاعتداءُ على أَراضِي الآخَرين في غَيبَتِهم والاستيلاءُ عليهَا في حَضرَتهم، ورسولُنا يقول: ((مَن اقتَطَع أَرضًا ظلمًا لقِيَ الله وهو عليه غَضبان)) رواه مسلم.
كما أنَّ من الظلم ارتكابَ الحِيَل وركوبَ أسبابِ المكر والخِداع بالاعتداءِ على أراضي المسلمين وتَغييرِ مَنار الأرض التي مَنافعُها للنّاسِ أَجمعين، عَن هشامِ بنِ عُروة عن أبيهِ أنَّ أروى بنتَ أويس ادّعَت على سعيد بن زيد أنّه أخَذَ شيئا من أرضِها، فخاصَمَته إلى مروان بنِ الحكم، فقال سَعيد: أنا آخُذ شيئًا من أرضِها بعد الذي سمعتُه من رسول الله ؟! قال: وما سمعتَ من رسولِ الله ؟ قال: سمعتُ رسولَ الله يقول: ((مَن أخَذَ شبرًا من الأرض ظلمًا طُوِّقه إلى سبعِ أراضين))، فقال له مَروان: لا أسألُك بيِّنةً بعد هذا، فقال: اللّهمّ إن كانَت كاذِبةً فعَمِّ بَصَرَها واقتُلها في أرضِها، فما ماتَت حتى ذهَبَ بصرُها، ثم بَينَا هِي تمشي في أرضِها إذ وقعَت في حفرةٍ فماتت. متّفق عليه. وفي حديثِ عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال: لعَنَ رسول الله من غيّر مَنارَ الأرض. أخرجه الحاكِمُ وحسَّن إسنادَه الذهبيّ.
ومِثلُ العدوانِ عَلَى حقوقِ الناسِ في الأرضِ العدوانُ على المالِ العامّ المالِ الحُكوميّ في الأرَاضي وغيرِها، بل ربما كان العدوانُ على المالِ العامّ أشدَّ حُرمَةً وأبشَعَ أثَرًا؛ لأنّ الضَّرَرَ فيه يُصيبُ الأمّةَ بمَجموعها، وفي البخاريّ: ((مَن أخَذَ مِن الأرضِ شَيئًا بغير حقٍّ خُسِف بِه يومَ القيامَةِ إلى سَبعِ أَراضِين))، وفي الحديثِ أيضًا: ((مَن أخَذَ مِن طَريقِ المسلِمين شِبرًا جاء يومَ القيامة يحمِله من سبع أراضين)).
أخِي المسلم، اتّقِ الله فيما عليك من حقوقِ المسلمين، وأدِّ مَا وجب عليك من الواجِباتِ والدّيون، فرسولُنا يقول: ((مَطلُ الغَنيِّ ظلمٌ)) متّفق عليه، وفي الحديثِ: ((ثلاثةٌ يبغِضُهُم الله: الشّيخُ الزاني، والفَقير المختال، والغَنيّ الظلوم)) حديث صحيح.
إِخوةَ الإسلام، كلُّ مَن تَولّى للمسلِمينَ وِلايةً فهو سُلطانٌ على هَذه الوِلاية، يجِب عليه تقوَى الله والعدلُ بين المسلمين والحذَرُ من ظلمِ الخَلق أجمعين، قال : ((ثَلاثٌ أخافُ عَلَى أمّتي: الاستسقاء بالأنواءِ، وحَيف السلطان، وتكذيبٌ بالقدر)) رواه أحمد وَهوَ صَحيح، ويقول : ((إنّ أحبَّ النّاس إلى الله يومَ القيامة وأَدناهم منه مجلِسًا إمامٌ عادل، وأبغَض النّاس إلى الله وأبعَدهم منه مجلِسًا إمامٌ جائرٌ)) رواه الترمذي وقال: "حسن غريب". والوَيلُ ثمّ الوَيل للقَاضِي إذا ظلَم والحاكمِ إذا جَار عنِ العدل، قال : ((القضاةُ ثلاثة، وَاحدٌ في الجنّة واثنانِ في النّار، فأمّا الذي في الجنّة فرجلٌ عرَف الحقَّ فقضى بِه، ورَجلٌ عرفَ الحقَّ فجار في الحكمِ فهو في النّار، ورجلٌ قضى للنّاس على جهلٍ فهو في النار)) رواه أبو داود وابن ماجَه وسنده صحيح.
يا أهلَ الولاياتِ والمناصبِ، يا أهلَ الوظائف والمراتِب، اتّقوا الله جلّ وعلا فيما وُلِّيتم عليه من أمور المسلمِين، فتفضيلُ بعض الناس على أمثالهم في الوظائف ظلمٌ جسيم، وتقديمُ مَن ليس أهلا على مَن هو أهلٌ جَورٌ عظيم، وقَصدُ المضرّة بالآخرين في دُنياهم ظلمٌ مبين، قال : ((صِنفان من أمّتي لا تنالهما شفاعتي: سُلطان غشوم ظَالم، وغَالٍ في الدين)) الحديث روَاه ابن أبي عاصِم في السنّة بِسندٍ صحيح وذكَرَه المنذِري وقال: "رواه الطّبراني في الكبيرِ ورِجاله ثقات". وفي حديثِ أبي هريرة قال: قالَ رسولُ الله : ((مَا مِن أميرِ عَشَرةٍ إلا يؤتى به يومَ القيامة مغلولا، لا يفكُّه إلاّ العدل أو يوبقه الجور)) رواه أحمد وسنده صحيح.
واحذَروا ـ يا مَن جعَل الله حَاجاتِ الخلقِ عِندهم ـ أن تَضطرّوهم لما لا يُحمَد شرعًا ولا يُرتَضَى طبعًا، فتبوؤوا بالإثم والغضب من الربّ جلّ وعلا، قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: (إنما أهلك من كان قبلكم أنهم منَعوا الحقَّ حتى اشتُرِي، وبَسَطوا الجورَ حتى افتُدِي).
إخوةَ الإسلامِ، ومِن الظّلمِ الواضِحِ الذي يَقَع فيه بَعضُ الناسِ ظلمُ الأجَرَاء والمستَخدَمين من عمّالٍ ونحوِهم ببخسِهِم حقوقَهم أو تأخيرها عن أوقاتها أو إِهانَتِهم بقولٍ أو فعل، في صحيحِ البخاريّ أنَّ النبي قال: ((ثلاثةٌ أنا خَصمُهُم يَومَ القيامة))، وذكر مِنهم: ((ورجلٌ استأجَرَ أجيرًا فاستَوفى مِنه ولم يعطِهِ أجرَه))، وفي الحديث أيضا أنَّ رسولَ الله قال: ((إنَّ الله يعَذِّب الذين يعذِّبون الناسَ في الدّنيا)) رواه مسلم.
أيّها الآباء، ومِن الظلمِ الذي يقَعُ فيه بعضُ النّاس بِسَبَب العَاطِفَة المذمُومَةِ تَفضيلُ بعضِ الأولاد على بعضٍ في العطيّة. فضّل بشير ابنَه النعمان بهديّةٍ من بين أولاده وأرادَ أن يُشهِد رسولَ الله ، فقالَ لَه سيِّدُنا رَسولُ الله : ((يا بَشير، أَلَك ولدٌ سِوى هذا؟)) قال: نعَم، فقال: ((أكلَّهم وَهبتَ له مِثلَ هذا؟)) قال: لاَ، قال: ((فَلا تُشهِدني إذًا؛ فإني لا أشهَد على جَور)) متفق عليه، وفي الحديثِ الآخر: ((اتَّقوا اللهَ واعدِلوا بينَ أولادِكم)).
إخوةَ الإسلام، ومِن الظلم العظيمِ مؤاخذةُ غيرِ الجاني والاقتِصاصِ من غير [الباغي]، يقول سبحانَه في قصَّة العَزيز: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ [يوسف:79].
مَعَاشِرَ المسلِمين، العفوُ عنِ المظلَمَة فيه أجرٌ عظيم وثوابٌ جزيل، فربّنا جل وعلا يقول: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [الشورى:40]. ولَئِن كان العفوُ بهذه المثابَةِ فالصَّبر على الظلم واحتساب الأجرِ فيه من الله أعظمُ أجرًا وثوابًا، وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [الشورى:43].
بارك الله لنا في الوَحيَين، وَنفَعَنا بما فيهِما مِن الهَديِ والبيانِ، أقول هذا القَولَ، وأستَغفِرُ الله لي وَلَكم ولسائِرِ المسلمين مِن كلّ ذَنبٍ، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.
|