أما بعد: فيقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1].
نعم أيها المسلمون، إن المنافقين لكاذبون؛ لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون، وأنهم يقولون بألسنتهم ما لا يعتقدون في قلوبهم. نعم، إن سيدنا محمدا هو رسول الله، وإن تكذيب القرآن الكريم للمنافقين لأنهم يظهرون خلاف ما يبطنون.
أيها المسلمون، هذه الآية الكريمة هي الآية الأولى من سورة المنافقون، وسبب نزولها قد ورد في كتب السيرة والتفسير، ومفاده أن الصحابي الجليل زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله في سفر، فأصاب الناس شدة، وسمعت رأس المنافقين عبد الله بن أبي يقول لجماعة: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا، وقال أيضا: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي لتألمي لما سمعت، فذكر عمي للنبي ، فدعاني عليه الصلاة والسلام فحدثت بما سمعت، فأرسل رسول الله إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا أنهم ما قالوا هذا الكلام.
أيها المسلمون، يقول زيد بن أرقم رضي الله عنه: فأصابني هم لم يصبني قط مثله، كأنني كاذب، فجلست في البيت، فأنزل الله سبحانه وتعالى آيات المنافقين في سورة المنافقون لبيان الحقيقة، فيقول عز وجل: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ، وقال رب العالمين في فضحهم: هُمْ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ [المنافقون:7، 8]، فيقول زيد بن أرقم: فأرسل إلي رسول الله ثم قال: ((إن الله قد صدقك)). فقد جاء تصديق زيد من رب العالمين.
أيها المسلمون، لقد تناول القرآن الكريم نفاق العقيدة في ثلاثين موضعا لكشف المنافقين وفضحهم، ولأخذ الحيطة والحذر منهم، ولبيان أن فئة المنافقين موجودون في كل مجتمع وفي كل عصر، ولكن يتأرجحون بين القلّة والكثرة على ضوء صلاح المجتمع وفساده، فاحذروهم فهم أخطر من الكفار وأشد ضررا منهم؛ لأنهم يجمعون بين الكفر والخداع والمكر والحقد والتضليل.
أيها المسلمون، قال الله عز و جل في سورة المجادلة: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ [المجادلة:21]، وسبب نزول هذه الآية الكريمة أنه لما فتح الله تعالى للمؤمنين مكة المكرّمة والطائف وخيبر وما حولها قال الصحابة مستبشرين: نرجو الله أن يظهرنا على فارس والروم كبعض القرى التي غلبهم عليها وإنهم لأكثر عددا ولأشد بطشا من أن تظنوا فيهم ذلك، فنزلت هذه الآية الكريمة مبشرة المسلمين بأنهم سيغلبون وسينتصرون على الفرس والروم، وأن المنافقين قد فشلوا في تثبيط العزائم.
أيّها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، كأننا نعيش في هذه الأيام في أجواء هذه الآية الكريمة، فإن اللبنانيين يتلقّون مكالمات هاتفية تحذّرهم من قوة إسرائيل حتى يستسلموا وحتى لا يفكروا في صدّ الغزاة والمحتلين، ومن جهة أخرى فإن الأنظمة القائمة في العالم العربي والإسلامي مرعوبة من قوة أمريكا، فهي لا تقهر حسب أهوائهم وتخيلاتهم، فهم يسيرون كما توجّههم، كما أن صفة النفاق تصيب الأفراد والجماعات والأحزاب فهي تنسحب أيضا على الدول والحكام، وسبق أن كررنا مرارا المثل السائر: "أكلت يوم أكل الثور الأبيض"، فهل تذكر الحكام هذا المثل؟! وهل النفاق سوف يجمعهم؟! وهل الهرولة إلى البيت الأبيض ستنفعهم؟! والسؤال: لماذا نقول ذلك؟!
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، نقول ذلك لأن الخريطة الجغرافية السياسية الجديدة التي تطرحها أمريكا للشرق الأوسط تدقّ ناقوس الخطر لهؤلاء الحكام، أن أمريكا قد فرضت وصايتها على العالم الإسلامي، وأنها تريد ترسيم الحدود بين الأقطار الإسلامية من جديد، وذلك على ضوء الخارطة التي نشرتها مجلة القوات المسلحة، فأمريكا تخطط لترسيخ النعرات القومية بإقامة دولة كردية في شمال العراق وجنوب تركيا، ولإثارة النعرات الطائفية بإقامة دولة شيعية في العراق، أي: تريد تقسيم العراق إلى ثلاث دويلات، وإن ترسيم الحدود الجديدة المقترحة ستشمل اقتطاع أجزاء من المملكة العربية السعودية ومن أفغانستان وإيران وسوريا بإقامة دويلات متعددة ومتناثرة وبأسماء ما أنزل الله بها من سلطان.
أيها، المسلمون يا إخوة الإيمان في كل مكان، سبق أن تعرض العالم الإسلامي إلى تمزيق ودويلات بعد الحرب العالمية الأولى وإلغاء الخلافة العثمانية التركية، وعرف ترسيم الحدود وقتئذ باتفاقية "سايكس بيكو" التي أعلن عنها عام 1916 ميلادي، وهذه الاتفاقية منسوبة إلى وزير خارجية بريطانيا "مارك سايكس" ووزير خارجية فرنسا "شارل جورج بيكو"، ولا يزال المسلمون في العالم الإسلامي بعامة وفي بلاد الشام والعراق بخاصة يعانون من التجزئة والتفرقة والخصومة والخلاف على الحدود بين كل قطرين.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن ترسيم الحدود الذي فرض على المسلمين في الحرب العالمية الأولى هو ترسيم ظالم غير شرعي أصلا؛ لأن الإسلام لا يقر بالحدود المصطنعة، كما لا يقرّ بإقامة دويلات ممزقة، وإنما يدعو إلى الوحدة بين الأقطار، يرأسها حاكم مسلم واحد.
أيها المسلمون، يا إخوة الإيمان في كل مكان، إن الترسيم الجديد للحدود والذي تفرضه أمريكا وهو غير شرعي أيضا لأن مبدأ الترسيم مرفوض أصلا، وما بني على باطل فهو باطل، ونقول للحكام في العالم الإسلامي: ماذا تنتظرون؟! لماذا لا تتوحدون؟! لماذا لا توحدون مواقفكم وآراءكم؟! لِمَ لا تحرصون على مصلحة الأمة الإسلامية؟! ونقول للشعوب العربية الإسلامية أن يرفضوا أي تجزئة، بل يتوجّب على الشعوب أن تسعى إلى وحدة الأقطار الإسلامية لا إلى تمزيقها إلى دويلات هزيلة ومتناحرة. إن وحدة المسلمين هي القوة، إن عودة المسلمين إلى كتاب الله وسنة رسوله هي القوة والعزة والمنعة، ((تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله))، جاء في الحديث النبوي الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
|