أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها المسلمون، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا [الأنفال:28].
أيّها الناس، في منتصَفِ القرن الماضي وحينَ وَضَعَتِ الحروب العالمية أوزارَها وحين عضّت الحروب الأمميّة والأهلية الغربَ وذاقوا أُوارَها أورثهم ذلك كلُّه قناعاتٍ أن لا سيرَ لركب الحضارةِ ولا اندفاعَةَ في سبيل التقدُّم العلميّ ولا رفاهية تنشدُها الشعوب وطلقاتُ النارِ تُسمَع هنا وهناك والمدافعُ تحمِل إلى جَنَبات الأرض الهلاكَ، لا يمكِن لبيتٍ أن يخرِّج عالمًا أو لدارٍ أن تنتِج باحثًا ولا لبلدٍ أن ينشد رقيًّا وأنت ترَى في زواياه نواحًا وقتيلاً وبكاء على شجر كان مثمِرًا وظليلا وبيتٍ كان مشيَّدًا وكان جميلاً. حينئذٍ تنادى عقلاؤهم وتداعى حُكماؤهم لإنشاء منظمات وهيئاتٍ ومجالسَ وجمعيات، وسَعَوا في وضع عهودٍ وعقود ومواثيقَ وبنود تكفل للمنتَمي إليها الأمان وتَعِدُ المنضمَّ إليها النصرةَ على نوائبِ الزمان وعدوان الأباعدِ وطمَعِ الجيران، ودخلَت الدوَل العربيّة والمسلمة في كثير من تلك المنظمات والهيئات، تنشد ما يَرنو له غيرها من الأماني والاستِقرار، راغبةً مشاركةَ الإنسانيّة أمنَها وحَضارَتها. كيف لا وفي تُراثهم أنَّ نبيَّهم قال يومًا لأصحابه: ((لقد شهدتُ في دار عبد الله بن جدعان حِلفًا ما أُحِبّ أنّ لي به حُمرَ النّعَم، ولو أُدعَى إليه في الإسلام لأجبتُ))؟! وهذا هو حِلفُ الفُضول الذي تداعت إليه قبائلُ مِن قريش على أن لا يجِدوا بمكّةَ مظلومًا من أهلِ مكة أو مِن غيرهم إلاّ قاموا معه، وكانوا على من ظلَمَه حتى تُرَدَّ عليه مظلمتُه. كيف ونبيُّهم هو أوّل مَن وقَّع معاهدةَ دِفاعٍ مشتَرَك بينه وبين يهودِ المدينة؟!
إلاَّ أنَّ الناظرَ لحال العالَم بعد قِيام تِلك الهيئاتِ والمنظَّمات لا يحتاج لكثيرِ تأمُّل ليعرفَ أن الظلمَ بعد ذلك لم يخفّ وأنّ الدماء لم ترقأ وتجِفّ وأن الحروب لم تنتَهِ وتقِف، إنّما تغيّرت مواقعُها على الخارِطةِ فَحَسب، فهجَرتِ الغربَ إلى الشّرق واستوطَنَت بِلاد العرَبِ والمسلِمين، لتقفَ تلك المؤسَّساتُ مِن قضايا المسلمين لا في موقِعِ المتَفَرّج فحسب، بل تقوم بدورِ المبرِّر للجريمة أحيانا، وقد يحصل تدخُّلٌ إيجابيّ في مرات قليلةٍ ولكن بعد فوات الأوان وبعد خَلقِ واقعٍ جديد في المنطقة يخدم مصالح الدول النافِذَة. وبِقَدرِ ما تُنتِجُه مؤسَّسات العِلم والفِكر في الغَربِ مِن تنظيرٍ لحقوق الإنسان وإثراءٍ في مفهوم العَدالةِ والمساواة بقدر ما تكون النتائج عكسيّةً على ديار المسلمين، وكأن التناسب عكسيٌّ بين تنظير الغرب وحال الشرق، والهُوَّة غيرُ قابِلَةٍ للرَّدمِ أو التَّجسيرِ بين مبادئ شعوب الغرب التي تفاخر بها وبين مواقف حكوماتهم تجاهَ قضايانا.
وإنَّ العاقلَ ليتساءل بكلِّ دهشةٍ: ما مَصلحةُ الحكومات الغربيّة في تطفيفِ الكيل بل كسرِ الكفَّة أحيانا؟! إنك حين تريد فهمَ كثير من سياساتهم مع العرب والمسلمين على ضوء المصالح والمنافِعِ المتبادلة والتي لم تمنعنا منها شريعتُنا لوجدتَ أن في صالح الغربِ الاقترابَ أكثر من المسلمين؛ فهم أكثر من مليار إنسان، تحوي بلادهم خيرَ العالم ووَقوده، وتتقاطع على أرضِهم الطرُق البريّة والبحرية والجوية والمنافِذُ المهمة في العالم، وقد أسهَمت عقولُ أبنائِها المهاجِرين منها إسهاماتٍ فاعلةً في الجامعاتِ الغربيّة ومراكزِ البحوث والمختَبَرات، وكانوا ولا زالوا راغبِين في التعايُش السِّلميّ مع الآخرين، ومع ذلك تُهدَر كلّ هذه الاعتبارات لصَالح عدوِّهم الذي احتلَّ ديارَهم وشرّد أهلهم؛ عدوُّهم الذي لا يتجاوَزُ عددُه بضعَةَ ملايين، مقدِّمةً رِضا القليل على سَخَط الكثير، مكتسبين عداءَ مئات الملايين في سبيل حَفنَةٍ قليلين، معرِّضين مصالحَهم للخَطَر ومستَقبَلَهم للمجهول لأجلِ شِرذِمةٍ قليلين، يأخذون ولا يعطون، ويستفيدون أكثرَ مما يُفيدون، ويحتقرون كلَّ جنس سِواهم. ولو أنَّ هذه القلَّةَ المغلَّبَةَ مصلحتُها على مصلحةِ الكثرَة كانت صاحبةَ حقٍّ وعَدل في قضاياها لكان الأمر مفهومًا ومعقولاً، لكنّك حين تتأمَّل هذه المعادَلةَ من الحكوماتِ الغربية ترى أنّه لا يمكن أن تستقيمَ على أيِّ فهمٍ مصلحيٍّ ظاهر إلا أن يكون القصد دينِيًّا والمصلحَة عقديّة، وهو ما صرَّح به كثيرٌ منهم مجترِّينَ تاريخًا ملطَّخا بالعداء القديمِ وترادُفِ الحمَلات والحروب، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217]، وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [البروج:8]. وهذه النتيجة هي أخطَرُ ما يثير المسلمين ويرخصون لأجله أرواحَهم ودماءَهم. والمتأمّلُ في التاريخ يرَى أنَّ المسلمين لم يدخلوا حربًا دينيّة في تاريخهم إلا وكانت الغلبةُ لهم وإن مُنُوا بانكساراتٍ هنا وهناك مهما كانت قلّةُ عَدَدهم وضَعفُ عُدَدِهم، فالحجَر في يد أحدهم أمضَى من سلاحٍ في يد غيرهم، والرشاشُ على صدر الواحد منهم أشدُّ من المدفع على أكتاف آخرين، وهذا ما شهد به الأعداءُ قبل الأصدقاء.
إنّه وإن تنادى عقلاءُ الغرب باجتناب الاحتراب الدينيّ بين الأمَم والصدام الحضاريّ بين الشعوب وادّعت حكوماتُهم أنها علمانيّة إلاّ أنّ كثيرًا من المواقف لا يمكن تفسيرها إلا عند استحضار باعثِ الدين ودافِعِ العقيدة؛ مما يجعل المنطقة قابلةً لانفجار لن يسلمَ من شظاياه البعيدُ ولن تختصَّ بضرره بِلادٌ دونَ أُخرَى، وحينئذ ستكون مصالحُ العالم كلِّه في مهبِ الريح.
وإنَّنا لنتابِع بكلِّ أسى ودهشة سياسةَ بعض الحكوماتِ المؤثِّرةِ في العالم، والتي لم تفلح في شيءٍ مؤخَّرًا مَا أفلَحَت في اكتِسابِ الأعداء الجُدُد لها، ولم تُنجِز تاليًا أكثَرَ من تكريسِ الكراهية في النفوسِ لها. ولئن ظنَّت وهي في سكرةِ قوّتها وغطرسة جبروتها أنها في مأمن من انفجار غليانٍ ما زالت تضرِم نارَه وتؤجِّج أوارَه فهي واهِمَة، فَلَقد ذاقت هي كما ذاق غيرها بعضَ نتائجِ سياساتها مِن غير رَغبة من عمومِ المسلمين، فكيف إذا تطوَّر الأمر واختلف الحال واقتُحم العرين. ولقد حذَّر العقلاء من سياسَة خلقِ الأعداء في المنطقة؛ إذ كلُّ قذيفة يطلقها مدفعٌ وأرضٍ تُجرَف أو شَتلَةٍ تُنزَع وكلُّ بيتٍ يُهدَم ويُهال ودَم ينزف ويسالُ محميًّا بتبريرات مؤسّساتٍ كبرى ودَعمِ قِوى عُظمى، كلُّ ذلك هو بيئة خصبَة لولادة جماعات جهاديّة أو منظماتٍ دموية أو تكتّلات عدوانيّة، كلُّ قهرٍ يقع على الشعوب المسلمة يُبحر بمركب الحلول بعيدًا عن شاطئ السّلام ويَئِد محاولاتِ التقريب والانسجام.
أيّها النّاس، كثيرًا ما تُعقَد ندوات وتُشكَّل مؤتمرات لبَحثِ أسبابِ الكُرهِ المتنامي لدى العرَب والمسلمين تجاهَ الغرب، يتساءلون: كيف يكون الكُره ومراكزهم الفكريّة تنظّر لحقوق الإنسان وتدعو للعدلِ والمساواة ونبذِ العنف والإرهاب والتمييز العنصري والتبشيرِ بالديمقراطيّات الحالمة؟! وقد لا يعلم أولئك المنظرون أنّ ثمرات اجتماعاتهم ونتائجَ بحوثهم تصلنا هنا في الشرق ولكن على ظهر دبابة أو عبرَ فوهةِ مِدفع، ورسولهم إلينا بهذه المُثُل ليس وزيرًا ثقافيًّا أو سفيرًا فِكريًّا، إنما يحمِلُها إلينا جنرال عسكريّ أو تلقيها إلينا طائرةٌ حربية.
انظروا إلى أعراس الديمقراطيّة في مآتم بغداد، فتِّشوا عن حقوق الإنسان تحت رُكام قانا وضاحيةِ بيروت، سلوا عن العدل المشردين من أبناء فلسطين، تلمّسوا الحريةَ في قيود الأسرى بأقبية السجون، والذين أوشكت طلائعهم أن تدخل عامها الثلاثين وهم في الأسر مَنسِيّون، شاهدوا نُبَذ التمييز العنصري في حقِّ النقض وفي مؤسَّسات اتخاذ القرار العالمية ضدَّ قضايانا ومصالح المسلمين؛ لتعلموا السبَبَ وتضعوا أيديكم على الداء؛ ازدواجية مقيتَة وظالم سافِرة ودَعمٌ للظالم وكَبتٌ للمظلوم. فهل يعي مفكِّرو الغرب وموجِّهو الرأي فيه الذين يعتزّون بحرّيّة الكلمة واستقلاليّة الفِكر ومن يفاخرون بأنهم شعوبٌ تنصِّب قادَتَها وتصنع حكوماتِها؟! إنَّهم مدعوُّون لإعادةِ النَّظَر في سياسةِ قادَتها وتصرُّف حكوماتها تجاهَ قضايانا، وتتبصَّر الشّعوب المغيَّبَة، فإن كانت صادقةً فلتُعد حساباتِها إذا وقفت أمام صناديق الاقتراع لتشكيل الحكومات واختيار القادةِ ورَسم السّياسَات، وإلا فإنَّ الجميعَ شركاءُ في الأفعال وفي تحمُّل ردودِ الأفعال. كما أنَّ المسلمين مطالبون بالطرح الصادقِ في إعلامهم والعرض النزيه لِقضايا الأمّة، بعيدًا عن التغييبِ والتَّزييف، بدَلَ هذا الغثاءِ الذي تمطِرُنا به قنواتٌ عربيّة لا حصرَ لها، أو تنشغل بشقّ الصفّ وبَثِّ الفرقة بين المسلمين وتوظيف الفتاوَى في غيرِ مَوضِعِها والتَّرويجِ لما يثير الفِتنَ.
بارك الله لي ولكم في الكِتاب والسنَّة، ونفعنا وإيّاكم بما فيهما من الآيات والحكمة، أقول قولي هذا، وأستغفر الله تعالى لي ولكم.
|