أما بعد: فإن نعمة الماء هي من أجل النعماء، وإن الحياة بلا ماء بأساء وضراء، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [الأنبياء:30].
إن الناس منذ القدم عاشوا بجوار الغُدران، وأحبوا الشُطآن، وسَاكنوا البحار، وتركوا القفار، فهي خلاء من الكلأ والأشجار، ساروا إلى أرض لا يعرفونها، ومنازل قد لا يصلونها، كل ذاك بحثًا عن الماء.
الماء والحياة رفيقان منذ القدم، والماء والفناء متلازمان منذ الأزل، فما أعجب خلق هذا الماء، صنع الله الذي أتقن كل شيء. إن هذا الماء الذي جُمع فيه بين نقيضين، ورُصف فيه بين متقابلين، إنه لشيء عجاب.
سار إبراهيم الخليل الحنيف، وأنزل هاجر وإسماعيل في أرض من حجر، فلم يك يومها يوجد ماء ولا حياة، بل كان هناك صخور وجلامد، فتركهم وانصرف. فمن رأى الموقف قال: هذا تصرف غير معقول، ومن سمع به لام الفاعل، لكنه تنفيذٌ لأمر رب العالمين، فلم يهِن أو يستكين. بكى إسماعيل عطشا، وركضت هاجر بين جبلين حرضا، فكادت تَهلك نفسُها لما بكى وليدها، وهي تسعى بين الصفا والمروة إذا بها تفقد بكاء الطفل الرضيع، فشكت في الأمر، وسلمت تسليما، وأتت بخطى كسيرة، تمشي الهوينى، ولا تدري ما تصنع، إذ لفت حسها باهر الخبر وجليل العبر، فقد رأت الماء ينبع من تحت قدمي إسماعيل، فشكرت المنعم الجليل، وسألت: كيف ذلك؟! فرأت قدمي طفلها قد أثرت في الصخر من طول البكاء، فخرج من تحتها الماء، وعلمت أنه لا حياة لمن ليس له تعب وعناء، فحبَست الماء كي لا يذهب هدرًا، ولو تركته لصار منه أودية وغُدرا، كما جاء ذلك عنها خبرا.
إخوة الإسلام، إن الغيث الذي همع والماء الذي اجتمع قد حملته إليكم المزن رحمة ونعمة وفضلاً، فاشكروا هذه الآلاء، واصطبروا على الضراء، ولا يغرنّكم بالله الغرور، فيومٌ همّ وآخر فيه السرور.
إخوة الحق والفضيلة، ما إن رأى الناس الغيثَ قد روَّى الأرض وسار في الطول والعرض حتى أدركوا نعمة الدعاء ولذيذ الشكاية والنداء. خرج الناس إلى المصلى ودموعهم تهمع، ورجوا أن دعاءهم يسمع وهتافهم يرفع، فلم ينزل من السماء ماء، وصبروا وأكثروا من الالتجاء، وصابروا على ذلك حتى نزل غيثًا غدقًا سحًّا مجلّلاً، فسُرت به العيون واكتحلت به الجفون، فله الحمد في الأولى والآخرة.
عندها لتعلم ـ أيها المسلم ـ أن الدعاء قد لا يتحقّق من حينه، وأنه يحب إلحاح عبده عليه، فإن فعل أعطي أكثر مما طلب.
أيها الأخيار، إن انحباس الماء له أسباب كثر:
فأولها: أن الله تعالى يبتلي عباده في السراء والضراء، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط، ويجب على من أسلم وجهه لله أن يرضى على كل حال، فيؤجر مرتين أجر الابتلاء وأجر الرضا.
ثانيًا: أن الظلم وبخس الحقوق بين العباد من أشد الأسباب أثرًا في حبس القطر من السماء، وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا [الفرقان:19]. فكم من صاحب حقّ تركه ولم يطالب به لعلمه جحودَ المدين ومماطلة الواجد الغني، وفي الحديث: ((مطل الغني ظلم)) رواه البخاري (2125) ومسلم (2924). وكم ممن استقدم عمالاً وخدمًا فأكل حقوقهم، وهضمهم عرق جبينهم، وبخسهم أجرهم، فهم يأكلون في بطونهم نارًا، يدعون عليهم في الليل والنهار، وما علموا أن الإحسان إلى الأجراء من عمال وخدم من أخلاق الإسلام وآدابه السامية. بل كم من عامل قد خدع ربّ العمل أو خان كافله وسبب له عراقيل وإيذاء، وقَّع مع الآخرين عقودًا ما نفذها، أكل مالهم وجحد حقهم وأساء في العمل، لا يؤتمن على تنفيذ البنود، وما علم أن هذا من أخلاق اليهود. وكم من زوجين قد قسَت قلوبهما من كثرة ما يبهت بعضهما بعضا، فصار البيت نارًا وجحيمًا. وكم من عاقّ لوالديه آذاهما ليلاً ونهارًا، بكيا من ألم العقوق وشديد الفسوق، وما فعل فيهما كما فعل صاحب الصبوح والغبوق. وكم ممن تخاصما كيدًا كيدًا، ليرهق كل منهما صاحبه عدوانًا وظلمًا، وليجعله مهانًا حقيرًا. وكم من جيرانٍ تدابروا، وكم من أرحامٍ تقاطعوا، وكم من أحبابٍ تهاجروا، بسبب تافهٍ حقيرٍ، وصنعوا جبلاً من القطمير. تظالمٌ بين من يدَّعون الإسلام، فلا والله ما حسن إسلام أولئك، فـ((من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه)) رواه الترمذي (2239) وابن ماجة (3966)، و((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده)) رواه البخاري (9)، ومسلم (57)، والنسائي (4910).
ثالثًا: وإن من المعاصي القلبية وآفات اللسان والبنان وهي من أقوى أسباب الضراء واحتباس الماء، فمن الشرك الخفي الرياء، ((من عمل عملا أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)) رواه مسلم (5300)، وإنه قد جاء في الخبر عن خير البشر: ((إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر)) رواه أحمد (22528)، فكم من عمل جميل قد حبط، وقول جليل قد سقط، فليكن عمل أحدكم لله وحده لا شريك له فقط. والعُجب محبط للأعمال، والكبرياء آفة ووبال، والهمز واللمز والغمز حسرة وندامة، ونقل الحديث بلا تثبت سهم قاتل، فتك بالأبرياء وجرَّأ السفهاء. وحب الدنيا قرة قارون، وحب الرئاسة مسلك فرعون، والسعي لهما حثيثًا يودي بترك الصلاة، وهذه سيماء أميةَ بن خلف، وبئس السلف لهذا الخلف.
وإن الخيانة والتقلب في إيفاء المواعيد هي أرذل صفات المنافقين، قال عليه الصلاة والسلام: ((أربع من كن فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلةٌ من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر)) رواه البخاري (33). إنها صفات ترونها عيانًا بيانًا في كل الأحوال. بل وإن مجمع البحرين وآفة الشرين الكذب والاحتيال، والتي تُدرِّكُ صاحبها في سفال، ويُصلى بالنار، ويذاق الحميم والشنار، ويوسم بالذل والعار.
ولو تعلمون ما يلقاه الأزواج الخائنون والزوجات الفاسقات من بلاء وفتون جزاءً بما كانوا يخونون ولعهد الله ينقضون، فمن خان منهما صاحبه فقد خان ميثاقًا غليظًا، فهو شارب قيحًا وصديدًا، ونتنًا آتيًا من فروج المومسات، وسوف يشربه كما تشرب عطشى الهيم.
أيها البررة الكرام، ألا فلتدركوا أن آفات اللسان شرها خطير وبلاؤها مستطير، فقد حث الحبيب عليه الصلاة والسلام بحفظ اللسان فقال في جميل البيان: ((كف عليك هذا)) رواه الترمذي (2541) وابن ماجة (3963) وأحمد (21008)، وقال: ((أمسك عليك لسانك)) انفرد به الترمذي (2330). وفي حديث معاذ رضي الله عنه: ((وهل يكبُ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائدُ ألسنتهم)) رواه الترمذي (2541) وابن ماجة (3963) وأحمد (21008).
كم في المقابر من قتيل لسانه كانت تهاب لقاءه الشجعان
ولم تحدث فتنة وقتل ونشوز وعضل إلا بسبب زلات اللسان.
الغيبة والنميمة أدواء محرقة ومآسي مطبقة، لا ينقلها إلا اللسان، ولم تدخل بين قلبين إلا فرقتهما بعد اجتماع.
كم تفجرت قلوب من سماع قول أثيم، عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيم، مناع للخير معتد أثيم. وتقرحت جفونٌ من كذاب بهات مكار قتات.
أمسك عليك لسانك ثم أمسكه، ولا تدع شيطانك على قول وشهادة الزور يغلبْك، لتفوز بالحبور وتزوج بالحور وترى وجه ربك العزيز الغفور.
ألا إن آفات السمع من أخطر الآفات التي تصيب القلب بالران وضعف الإيمان، فلا تسمع من مغتاب أو من نمام، فمن نمَّ لك نمَّ عليك، ومن اغتاب عندك اغتابك عند غيرك، فكن على حذر كي لا تصلى سقر.
وإياك وسماع الغناء، فهو دليل الخنا وبريد الزنا، فإنه يزيل عن قلبك حب سماع القرآن.
حب الكتاب وحب ألحان الغنـاء في قلب عبد ليس يجتمعان
هذه آثار الذنوب والأوزار، ومن مسببات انقطاع الأمطار.
فلا تهنوا وأنتم الأعلون باتباع الشرع وصدق الإيمان، وإن زلت قدم بعد ثبوتها صرتم على شفى جرف هارٍ، يكاد أن ينهار إلى عذاب النار.
قلت ذلك وسمعتموه، فاحفظوه وعوه، وإياكم أن تدعوه، ولتزموا الاستغفار، فهو رحيم به غفار، ويجعل لكم به الجنات والأنهار، ويمددكم بالأموال والبنين، وينزِّل عليكم الأمطار.
|