عباد الله، كانت التحولات الاجتماعية بطيئة الإيقاع عصية الانقطاع، وما هي إلا لحظات غفلة عقلاء وسطوة شهوة سفهاء حتى نما فيها الورم الخبيث وتسرطن الدماغ، فشلت القوى العقلية عن تدبير العضلات أو غرق الرقيب في بحر شلة، فتولى سرحان رعي القطيع يعصف بها في أودية الهلاك أو كهوف الزواحف أو مستنقعات النتن. جاء الامتحان وهو موسم لذكريات مزعجة: شلل، بداية تجربة في المخدرات، الوقوع تحت عبث الوغدنة وسمسرة الفاحشة، ومسلسل الهبوط أسرع من سلّم الصعود، فيا وَيح من بِناؤه هش أو لأسرته غشّ.
التفحيط والسرعة الزائدة وقطع الإشارة ضمن ثلاثة من أخطر المخالفات المرورية التي تؤدّي إلى خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات، ونظرًا لخطورته حرّمته اللجنة الدائمة.
عباد الله، عن ماذا نتحدث؟ هل نتحدث عن الضحايا البشرية، أم الخسائر الأخلاقية، أم الانتكاسات النفسية؟ أربعةُ آلاف ومائتا حالة وفاة، وألف ومئتا إعاقةٍ دائمة، وثمانية آلاف إعاقةٍ مؤقتةٍ سنويًا. لقد ازدادت الحوادث المروية في المملكة خلال عشر سنوات فقط بنسبة أربعمائة بالمائة. وخلال ثلاث وعشرين سنة بلغ عدد المصابين في حوادث المرور بالمملكة أكثرَ من نصف مليون مصاب. توفي منهم ستون ألفَ إنسان. ظاهرة التفحيط ظاهرة مرعبة؛ لكنها عند كثير من الشباب مجرد لعبة، ولكنها لعبة الموت.
هذا التزامن بين الامتحان وظواهر الخلَل السلوكي غاية في التناقض بين العلم والعمل، فالطالب في ذروة التواصل مع المادة العلمية، وبالمقابل في ذروة الفوضى والعبثية، فمن المسؤول؟!
المادة العلمية المكثفة في الجوانب الأخلاقية والتي يتلقاها أبناؤنا أين تأثيرها؟! وإلى متى ستبقى مظاهر الغش في الامتحانات والهيشات في انصراف الطلاب والإخلال بحقوق المارة؟! والطالب لا زال للتّو قد أمضى ساعات في صرح من صروح العلم والمعرفة، والذي كان يرجى أن يُرى منه أدب العلم والتعلم ظاهرًا على سلوكه وتعامله وكلامه وتصرفاته.
عباد الله، التفحيط شكل من أشكال إيذاء الناس غير المبرّر، ودلالة على عدم الاكتراث بسلامة وممتلكات الآخرين، ومناف لما جاءت به الشريعة، فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) متفق عليه، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت النبي : أي العمل أفضل؟ قال: ((إيمان بالله وجهاد في سبيله))، قلت: فأي الرقاب أفضل؟ قال: ((أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها))، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تعين صانعا أو تصنع لأخرق))، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: ((تدع الناس من الشر؛ فإنها صدقة تصدق بها على نفسك)).
مرحلة المراهقة وبداية الشباب مرحلة تتميز بالميول النفسية تجاه ترسيخ الهوية وإثبات الذات، وفي هذا السبيل يلجأ المراهق إلى وسائل عديدة تتضمن المغامرة وركوب المخاطر ومواجهة الصعاب؛ ليثبت للآخرين أنه الأقوى والأفضل والأحسن. حب الظهور والشهرة والفراغ ومحاكاة رفقة السوء والتحدي الذي يقع بين الشباب وضعف رقابة الأسرة وأثر وسائل الإعلام والألعاب الإلكترونية كأفلام المطاردات ومسلسلات العنف والترف وعدم تقدير النعم ومحاولة بعض الشباب لفت انتباه الأحداث والمردان واستدراجهم لعلاقات شاذة، كل ذلك من أسباب تفاقم هذه الظاهرة الخطرة كما تحكيه الدراسات العلمية. سلوك اللامبالاة أحد أهمّ سمات المفحطين، وكلما انخفض العمر والمستوى التعليمي برزت سلوكيات خطرة تعرض أصحابها والآخرين للمخاطر الشديدة.
التفحيط ليس جرمًا مقتصرًا على صورته، بل مفتاح لجرائم متعددة من قتل الأرواح البريئة وإتلاف وسرقة الأموال المحترمة وترويع الآمنين وباب من أبواب ارتكاب الأفعال اللاأخلاقية وأرض خصبة لتهافت الشباب على المسكرات وترويج المخدرات.
عباد الله، من يتولى التجمعات الشبابية بعد الامتحانات حول المدارس وفلولَ الطلاب الذين تأخّر عنهم الأولياء؟ وقد أصبحت هذه التجمعات لا تقل خطرًا عن مشكلة التفحيط إذ هي المغذي الأكبر لجذب المفحطين واستعراض مهاراتهم، وهم الضحية الأولى عند حصول خطأ ما في ميدان التفحيط.
إننا سنظل ننادي: أين الأنظمة؟! ومسؤولية من هذه الشطحات؟! وكيف نحقّق المنظومة الأدبية الأخلاقية في مجتمع نسبة التناغم الاجتماعي فيه عالية؟!
الخسائر البشرية جراء الحوادث من وفيات وإصابات سنويا أكبر من خسائر كثير من البلدان التي تجتاحها حروب أو زلازل مدمرة, في حين لا تزال جهود الجهات المختصة محدودة في حصر نطاق هذه الحوادث والتقليل منها.
هناك أخطاء دون أخطاء، فالخطأ المنهجي والنظامي فادحة كبرى لا تجدي معها الصيحات. ودون ذلك الخطأ في التطبيق وفهم النظام. وحتى لا يكون جهادنا تلاوما فلا بد من تحمّل التبعة ودفع الضريبة لتستقر الكرة في مرمى المفرطين.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|