أما بعد: فيقول الله عز وجل في سورة آل عمران: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ [آل عمران:173-175].
أيها المؤمنون، أيها المسلمون، أيها المرابطون، هذه الآيات الكريمة هي آيات مدنية، ولها أسباب نزول حافلة بالعظات والعبر لمن أراد أن يتّعظ ويعتبر أفرادا وشعوبا ودولا، فقد ذكرت كتب التفسير والسيرة النبوية الشريفة بأن زعيم المشركين أبا سفيان وقتئذ قد هدد بعد غزوة أحد في السنة الثالثة للهجرة بأن يلاقي المسلمين العام القادم في موسم بدر، فأجابه رسولنا الأكرم محمد مباشرة: ((نعم إن شاء الله تعالى)).
أيها المسلمون، لما رجع عليه الصلاة والسلام من غزوة أحد إلى المدينة المنورة أصبح حذِرا من رجوع المشركين إلى المدينة المنورة ليتموا غلبتهم على المسلمين، فنادى عليه الصلاة والسلام في أصحابه بالخروج خلف العدوّ لصدّهم عن دخول المدينة المنورة وأن لا يخرج معه إلا من شارك فقط في غزوة أحد، فاستجاب الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك بعزيمة وإصرار بعد أن أصابهم القرح وضمّدوا الجراح، وساروا حتى وصلوا إلى موقع يعرَف بحمراء الأسد، وقد حصل الذي توقعه الرسول ، فقد كان المشركون يجهّزون أنفسهم بالتوجه إلى المدينة المنورة، ولكن لما علموا بخروج النبي من المدينة ظنّوا أنه قد حضر معه من لم يحضر بالأمس، فألقى الله عز وجل الرعبَ في قلوبهم، وأسرعوا بالتوجه إلى مكة مندحرين.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، بينما كان عليه الصلاة والسلام في موقع حمراء الأسد ألقي القبض على المدعو أبا عزة، الشاعر الذي سبق أن وقع أسيرا بيَد المسلمين في عزوة بدر الكبرى، ومنَّ عليه الصلاة والسلام وقتئذ وأطلق سراحه بعد أن تعهّد أن لا ينظم شعرا يحرّض فيه المشركين على مقاتلة المسلمين، إلا أنه لم يلتزم بتعهده، فأمر عليه الصلاة والسلام بقتل أبي عزة الشاعر، فأخذ أبو عزة الشاعر يتوسّل للرسول ليمنّ عليه مرة أخرى، فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا، والله لا تمسح عارضيك بمكة وتقول: خدعت محمّدا مرتين، لا يلدغ المرء من جحر واحد مرتين)). وتُعدّ غزوة حمراء الأسد ردَّ اعتبار للمسلمين عما حصل لهم في أحد.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، هذا درس واضح للمسلمين في كل زمان ومكان بأن لا ينخدعوا بأعمال المشركين والمنافقين، وأن لا ينخدعوا بالذين ينقضون العهود والمواثيق، فالمؤمن ينبغي عليه أن لا يلدغ من جحر واحد مرتين، وينبغي عليه أن لا ييأس ولا أن يستسلم حين وقوع الهزيمة.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد تمكن رسولنا الأكرم وصحابته الكرام رضوان الله عليهم من تغيير الوضع العامّ لصالحهم بعد عام واحد فقط، وذلك في غزوة بدر الآخرة والتي تعرف بغزوة بدر الصغرى في السنة الرابعة للهجرة، حيث عسكر المسلمون في مكان بدر، في حين أن المشركين لم يحضروا في المكان والزمان الذين سبق أن حدّده أبو سفيان بنفسه، وحاول أبو سفيان تخويف المسلمين وإرجافهم واللعب بأعصابهم حتى لا يخرجوا إلى موقع بدر قبيل الموعد المقرّر، إلا أن محاولته قد باءت بالفشل، وكان المسلمون وهم متوجّهون إلى بدر يردّدون: (حسبنا الله ونعم الوكيل)، فازداد المؤمنون إيمانا على إيمان.
فعلينا ـ أيها المؤمنون ـ أن نردّد: حسبنا الله ونعم الوكيل، وبخاصة نحن الآن في أمر عظيم وفي مأزق عصيب، فالله كافينا، وهو حسبنا، وهو حافظنا، وهو راعينا، وهو نعم المولى ونعم النصير، فيقول رسولنا الأكرم : ((إذا وقعتم في أمر عظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل)). وقد سبق أن ردد سيّدنا إبراهيم عليه السلام هذه العبارة حين ألقي في النار بقوله: حسبنا الله ونعم الوكيل، وكان سيدنا إبراهيم عليه السلام في منطقة ديار بَكر بتركيا حين ألقوه في النار.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، لقد خرج الرسول ومعه أصحابه إلى موقع بدر، وأقاموا فيه ثلاثة أيام بأمان وأمن، وعادوا سالمين، فيقول الله سبحانه وتعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمْ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنْ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ.
فهذه الآيات الكريمة تدعو إلى الثبات والصمود في المواقف الصعبة والحرجة، وتدعو إلى التوكل على الله واللجوء إليه والخشية منه، وأن خشية الله مرتبطة بالإيمان، وأن المؤمن الذي يتصف بخشية الله فإن الله عز وجل يطوّع له المخلوقات كلها، أما المنحرفون والساقطون فإنهم لا يخشون الله، وإنما يخافون من الناس.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، في هذا السياق تسأل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها الرسول عن الخوف من الله فقالت: قلت: يا رسول الله، قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون:60]، أهو الذي يزني ويشرب الخمر ويسرق؟ قال: ((لا يا ابنة الصديق، ولكنه الرجل يصوم ويصلي ويتصدّق ويخاف أن لا يقبل منه))، أي: أن المؤمنين يعطون العطاء ويتقربون إلى الله بأنواع القربات والخيرات وهم خائفون مشفقون أن لا يتقبل الله منهم؛ لأنهم يؤمنون بلقاء رب العزة والجلال، هؤلاء هم الفائزون بالجنان ورضا الرحمن.
وعليه فإن الذي ينافق ويرتكب المعاصي والمحرمات لا يخاف من الله أصلا، فلو كان يخاف الله لما ارتكب المعاصي والموبقات والخيانات، ويقول الحسن البصري في هذا المقام: "إن المؤمن جمع إحسانا وشفقة ـ أي: خوفا وخشية من الله ـ، أما المنافق جمع إساءة وأمنا"، وسئل الحسن البصري: كيف تخاف من ربنا؟ قال للسائل: "لو ركبت البحر فتحطمت سفينتك فلم يبق منها إلا لوح واحد فأمسكت به بين الموج العاتي كيف يكون حالك؟" قال السائل: خوف شديد، قال الحسن البصري: "أنا هكذا مع الله في خوف منه ليل نهار". هكذا ـ يا مسلمون ـ كان سلفنا الصالح رضي الله عنهم.
أيها المسلمون، أيها المؤمنون، إن ما تمر به الأمة الإسلامية في هذه الأيام من المحن والمصائب والفرقة والاختلاف ليحفزنا بالرجوع إلى الله رب العالمين قولا وعملا، ويدفعنا للأخذ بالأسباب، فمن الذي ينصرنا؟ إنه هو الله، ومن يحمينا؟ الله، ومن يوحِّدنا؟ الله، ومن يميتنا؟ الله، ومن يرزقنا؟ الله، ومن يحررنا؟ الله. لا إله إلا الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فكلّما اقتربنا من الله فإن الله يقترب منا وينصرنا على أعدائنا.
جاء في الحديث الشريف: ((عينان لا تمسهما النار: عين بكت من خشية الله، وعين باتت تحرس في سبيل الله)).
|