أما بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
الحياة تتقلّب صفحاتها بين خير وشدّة وسرور وحزن، وتموج بأهلها من حال إلى حال؛ بسطٌ وقبض، سراء وضراء، قال الله تعالى: وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]. وفي الحياة مصائب ومحن وابتلاءات، قال تعالى: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنْ الأَمْوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ [البقرة:155].
وفي الأمة اليوم حالة مُرعبة من قلب المآسي، تصدُّعُ وحدتها، تفرُّق كلمتها، اشتداد البأس وألوان البلاء من قتلٍ وتشريد مع فشوّ الجهل، ولما أصابها من نكبة الذلّ والهوان وتكالب الأعداء. وفي الأمة انتشار الفساد والتحلّل بين أبنائها بصنو الإغواء والإغراء.
أحداث الحياة وشدائدُ الأحداث وأحوال الأمة قد تورث المرءَ لونا من اليأس والقنوط الذي هو قاتلٌ للرجال ومثبِّط للعزائم ومحطّم للآمال ومزلزل للشعور. وفي أوقات الأزمات تعظم الحاجة لاستحضار التفاؤل، والمتأمّل في سيرة النبي يجد تأكيده الأكيد والحرص الشديد على التبشير في موضع الخوف وبسط الأمل في موضع اليأس والقنوط؛ حتى لا تُصاب النفوس بالإحباط. قال خباب بن الأرتّ رضي الله عنه: أتيت النبي وهو متوسّد بردَه، وهو في ظلّ الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدّة، فقلت: يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟! فقعد وهو محمرّ وجهُه فقال: ((لقد كان من قبلكم ليمشَط بمِشاط الحديد ما دون عظامه من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه، ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشَقّ باثنين ما يصرفه ذلك عن دينه، وليُتمنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله والذئب على غنمه)) رواه البخاري.
ويبشّر الرسول عديّ بن حاتم بمستقبل عظيم لهذا الدين فيقول: ((لعلّك ـ يا عديّ ـ إنما يمنعك من الدخول في هذا الدين ما ترى من حاجتهم، فوالله ليوشكنّ المال أن يفيض فيهم حتى لا يوجد من يأخذه، ولعلّك إنما يمنعك من الدخول فيه ما ترى من كثرة عدوّهم وقلّة عددهم، فوالله ليوشكنّ أن تسمع بالمرأة تخرج من القادسية على بعيرها حتى تزور البيت لا تخاف، ولعلك إنما يمنعك من الدخول أنك ترى الملك والسلطان في غيرهم، وايمُ الله ليوشكنّ أن تسمع بالقصور البيض من أرض بابل قد فتحت عليهم))، قال عديّ: فأسلمت.
من قلب رحِمِ الفتنة ينطلق الصوت الكريم بالتفاؤل، يقول رسول الله : ((والذي نفسي بيده، ليفرّجنّ الله عنكم ما ترون من شدّة، وإني لأرجو أن أطوف بالبيت العتيق آمنًا، وأن يدفع الله إليّ مفاتيح الكعبة، وليهلكنّ الله كسرى وقيصر، ولتُنفقُنّ كنوزهما في سبيل الله)).
هكذا يكون الرجال بالإيمان، يحوّلون الألم إلى أمل، والتشاؤم إلى تفاؤل، والضيقَ إلى سعة، والمحنة إلى منحة، فتتقدّم الحياة وتنمو ويستمرّ عطاؤها.
المسلم المتفائل لا يسمح لمسالك اليأس أن تتسلّل إلى نفسه أو تعشّش في زوايا قلبه، قال تعالى: إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ [يوسف:87].
ومع ترادفِ صنوف البلاء على يوسف عليه السلام ثبت ولم يقنط ولم ييأس، فجاءه نصر الله وجعله على خزائن الأرض.
غمر التفاؤل حياة النبي ، ورسّخه مبدأً ساميًا، وربّى عليه الأوائل الأفذاذ. نزل في علوّ المدينة في حيّ يقال لهم بنو عمرو بن عوف كما في البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، وهذا تفاؤل له ولدينه بالعلو. رأى راعيًا لإبل فقال: ((لمن هذه؟)) فقال: لرجل من أسلم، فالتفت إلى أبي بكر رضي الله عنه فقال: ((سلمتَ إن شاء الله)). بدّل اسم امرأة تدعى: عاصية إلى جميلة، واسم رجل يدعى: أصرم إلى زرعة. وفي الحديبية جاء سهل يفاوض النبي عن قريش، فتفاءل رسول الله وقال: ((سهلٌ إن شاء الله)).
هذه هي القيادة الرائعة التي تلتمس الأسباب؛ لتنشر وتبذر في النفوس التفاؤل.
"تفاءلوا بالخير تجدوه"، ما أروعها من كلمة، وما أعظمها من عبارة. المتفائل بالخير سيحصد الخير في نهاية الطريق؛ لأن التفاؤل يدفع بالإنسان نحو العطاء والتقدّم والعمل والنجاح، وكما قال ربنا تبارك وتعالى: إِنْ يَعْلَمْ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا [الأنفال:70]، فاجعل في قلبك خيرًا وأبشر.
أعلى التفاؤل توقّع الشفاء عند المرض والنجاح عند الفشل والنصر عند الهزيمة وتوقُّعُ تفريج الكروب ودفع المصائب والنوازل عند وقوعها، فالتفاؤل في هذه المواقف يولّد أفكارَ ومشاعر الرضا والتحمّل والأمل والثقة، ويبعد أفكار ومشاعر اليأس والانهزامية والعجز.
أساس التفاؤل الثقة بالله والرضا بقضائه، وغذاؤه علمُ المؤمن أنّه لن يصيبَه إلا ما كتبه الله له؛ فهو سبحانه الذي يملك كلَّ شيء، فلا يستبطئ الرزق، ولا يستعجل النجاة، ولا يقلق على حال الأمة. يتفاءَل حتى لو نزلت به مصيبة أو دهمه مرض أو فقر أو فقد ولدًا أو زوجة. يتفاءل مع العمل على دفع ما يقدر من بلاء أو تخفيف ما نزل بأمته من ضرّ، ثمّ يطمع في ثواب الصبر وتحمّل المشاقّ. نتفاءل لأنّ في كلّ محنة منحةً، ولا تخلو مصيبة من غنيمة، تقول أمّ السائب: الحمّى لا بارك الله فيها، فينهاها النبي : ((لا تسبّي الحمّى))؛ فلها فوائد: تهذّب النفس وتغفر الذنوب، تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد، قال : ((ما من مسلم يُشاك شوكة فما فوقها إلا كُتبت له بها درجة، ومحيت عنه بها خطيئة)) رواه مسلم.
ففي معترك المصائب أوقِد جذوةَ التفاؤل، وعِش في أمل وعمل ودعاء وصبر، ترتجي بعض الخير وتحذر الشرّ. كان النبي إذا استسقى قلب رداءه بعد الخطبة تفاؤلا بتحوّل حال الجدب إلى الخصب.
التفاؤل الذي نتحدّث عنه هو الذي يولّد الهمّة ويبعث العزيمةَ ويجدّد النشاط. المسلم المتفائل متوكّل على الله، أكثر الناس نشاطًا، أقواهم أثرًا، كلّ عسير عليه يسير، وكلّ شدّة فرجُها آتٍ وقريب. المتفائل دائمًا يتوقّع الخير، يبتسم للحياة، يحسن الظنَّ بالله، والله عز وجلّ بيده مقادير الأمور، وهو سبحانه سيكشف الضرَّ الذي نزل بالأمّة، وسيجعل بعد العسر يسرًا، وبعد الضيق فرجًا، وبعد الحزن سرورًا، يرجو رحمة الله، ويتعلّق بحبل الله المتين، وتلك ثمرة الإيمان، قال رسول الله : ((إنّ حُسن الظنّ بالله من حسن عبادة الله)).
ونحن بحاجة إلى الأمل الذي يحيي النفوس، والعمل الذي يرفع عن الأمّة حالة الذلّ والهوان، وأخطر الناس من عاش بلا أمل، يسقط فلا ينهض؛ ذلك أن اليأس يسوق إلى الأفعال اليائسة، فإذا كان المرء مصابًا بالقنوط مما نزل به من مصائب أو يأسٍ من إصلاح الناس غدت الحياة في منظاره سوداء، يكره الناس، لا يثق بهم، وقد يندفع للانتحار أو العنف والقتل الذي هو الأسلوب الناجع بزعمه وضلاله، قال تعالى: وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ [النحل:127، 128].
بارَكَ الله لي ولَكم في القرآنِ العَظيم، ونفعني وإيّاكم بما فيهِ منَ الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر اللهَ العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم.
|