أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، أيها المؤمنون، لا شكّ أن الشباب في كلّ أمة هم عمادها وأساس نهضتها، وهم قوّتها في وجه الأعداء. إذا بليت الأمة في شبابها فقل: على هذه الأمة السلام؛ ولذا نجد الإسلام قد أولى الشبابَ عناية عظيمة فائقة في آيات وأحاديث ومواقف، وهل كان أصحاب النبي الذين نشروا هذا الدين ودافعو عن حياضه في مشارق الأرض ومغاربها إلا شبابا رضي الله عنهم وأرضاهم؟! من الذي حمل الراية؟! ومن الذي دافع عن هذا الدين؟! ومن الذي جاهد في الله ونشَر الدين في المشرق والمغرب إلا الشباب من أصحاب النبي والتابعون لهم بإحسان؟!
شباب ذلَّلوا سبـل المعـالي وما عرفوا سوى الإسلام دينا
ولم تشهدهم الأقداح يومـا وقد ملؤوا نواديـهم مجونـا
وما عرفوا الْخلاعة في بنات وما عرفوا التخنّث في بنينـا
كذلك أخرج الإسلام قومي شبابا مخلصـا حـرا أمينـا
وعلّمه الكرامة كيـف تبنى فيـأبى أن يـذلّ أو يهونـا
هؤلاء هم الشباب الذين حث الإسلام على أن نقتدي بهم، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]؛ ولذا يبين النبي فضل الشاب الذي ينشأ في طاعة ربه عز وجل ويطلِّق الهوى والنفس الأمارة بالسوء ويعرف مكائد الشيطان وحبائله وإغواءاته، ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبي قال: ((سبعة يظلهم الله تعالى تحت ظلّ عرشه يوم لا ظل إلا ظله: إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله)) رواه البخاري ومسلم.
تأمل ـ يا رعاك الله ـ كيف كانت منزلة الشاب الذي نشأ في طاعة الله بعد الإمام العادل مباشرة قبل السبعة الأصناف؛ ليبين لنا النبي بما لا يدع مجالاً للشك أنّ الشاب الذي ينشأ في طاعة الله رجل عظيم، رجل ذو همة عالية، طلَّق الدنيا، وطلق الهوى والشيطان والشهوات والشبهات، وأقبل على ربه عز وجل، ولذا رُوي في الحديث الذي أخرجه أحمد والطبراني: ((إن الله ليعجب من الشابّ الذي ليس له صبوة)) وضعفه الألباني، أي: ليس له ميل إلى المعاصي والمنكرات والشبهات والشهوات. وفي الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بإسناد حسن أن النبي قال: ((اغتنم خمسًا قبل خمس: حياتك قبل موتك، وصحتك قبل سقمك، وشبابك قبل هرمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك)) رواه الترمذي والحاكم وصححه الألباني.
فالشباب ـ يا عباد الله ـ هو القوه التي يستطيع الإنسان فيها أن يعبد ربه، أن يصلي، أن يصوم، أن يتنفل، أن يتصدق، أن يجاهد، أن يعمل الخير ولا يجد تعبا ولا نصبا؛ ولذلك كان من ضمن الأمور التي يسأل عنها العبد يوم القيامة هو الشباب، ((لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟)) رواه الترمذي وحسنه الألباني. ألم يكن الشباب من ضمن مراحل العمر؟! لكنه خصِّص له سؤال مستقل لبيان أهمّيته، لبيان مكانته، لبيان أهمية الشباب.
فإليكم أيها الشباب، يا شباب الإسلام، يا شباب محمد ، يا من نشأتم في هذا الدين العظيم، إليكم هذه العظة وهذه العبرة وهذه الموعظة وهذه الذكرى؛ لكي تعرفوا قيمة الشباب الذي أنتم فيه، ولكي تعرفوا أهمّية الشباب الذي سرعانَ ما يزول.
قالت حفصة بنت سيرين رحمها الله تعالى: "يا معشر الشباب، اعملوا؛ فإن فترة العمل في الشباب"، وقالت: "ما شبّهت مرحلة الشباب إلا بشيء كان في كمي ثم سقط"، قالت: "اعملوا؛ فإن مرحلة العمل في الشباب"، وأكثر الموتى من الشباب، وآية ذلك أن الشيوخ قليل.
الشاب هو من تكتمل قوته، من يصل إلى مرحلة الرشد، من لا يجد تعبًا ولا نصبًا في العبادة والذكر والصلاة والصيام وغير ذلك من الأمور.
لنعلم ـ يا عباد الله ـ أن أصحاب محمد كانوا شبابًا، ونشروا الدين، وذادوا عن حياضه، ورسموا لنا أوضح القدوات في التاريخ. من منا ينسى عبد الله بن عمر وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن عوف وسمرة بن جندب ورافع بن خديج وغيرهم وغيرهم من أصحاب النبي الذين لم يكن يتجاوز عمر أحدهم عشرين عاما، وكانوا قدوات في دينهم وفي عبادتهم وفي جهادهم وفي صلاتهم وفي ذكرهم وفي دفاعهم عن محمد ؟!
ولذا حثنا الإسلام على أن نحافظ على الشباب؛ بأن نسلك جميع الوسائل التي تؤدّي بالشاب إلى أن ينشأ في طاعة ربّه عز وجل، ومن ذلك الزواج بقصد العفاف والطهر، قال النبي : ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج)) رواه الجماعة من حديث ابن مسعود. فحثنا النبي على الزواج، وحث الشباب على الزواج حتى لا يقعوا في حبائل الشيطان؛ ولذا لأهمية هذا الموضوع ولأهمية مرحلة الشباب نرى يا عباد الله وهذا الأمر ليس سرّا، نرى أعداء الإسلام في الشرق أو الغرب يوجّهون كل سهامهم لتحطيم شبابِ الأمة؛ لأنهم يعلمون علم اليقين أنه إذا ضاع شباب الأمة فقل: على الأمة السلام.
شباب خنع لا خير فيهم وبورك في الشباب الطامحينا
لما أراد الصليبيون في آخر أيام حكم المسلمين للأندلس أن يغزوا مدينة قرطبة وقصر الحمراء آخر معقل للمسلمين في بلاد الأندلس أرسلوا جاسوسا لهم لينظر إلى شباب المسلمين؛ ما هو تفكيرهم؟ ما هي هممهم؟ ما هي طموحاتهم؟ فنظر ذلك الجاسوس وتجوّل في بلاد المسلمين، فبينما هو يتجوّل ذات يوم إذ به يجد شابًا من شباب الأمة في أحَد الوديان يبكي متحسّرًا نادمًا، قال له: ما بالك يا بني؟! قال: إني أتعلّم الرمي وقد رميت بعشرين سهمًا فأصبت في ثمانية عشر وأخطأت في سهمين، فأنا أبكي متحسرًا على ذلك، لو هجم علينا الأعداء فلن أدافع عن بلاد الإسلام؛ لأني قد أخطئ الرمي، فرجع ذلك الجاسوس إلى الصليبيين إلى قومه فقال: لا طريق لكم لغزو بلاد المسلمين.
ويدور الزمان وتتغيّر الأمور ويغرق شباب الأمة في اللهو والعبث والخنا والمجون والحبّ والغرام، فيعود جاسوس آخر بعد سنوات عدة لينظر هل الوضع ملائم لغزو بلاد المسلمين، فيجد شابًا يبكي فيقول له/ ما يبكيك يا بني؟! فيقول: أبكي على حبيبتي، فرجع ذلك الجاسوس وقال لقومه: لقد آن الأوان لغزو بلاد المسلمين.
إن الأعداء يعلمون أنه إذا كانت همم الشباب في العبادة والذكر وفي معالي الأمور وفي معرفة ما يدبّره لهم الأعداء فإنهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى بلاد المسلمين؛ ولذلك نجد الهجمات قويّة لتحطيم شباب الأمة عبر القنوات والمسارح والتمثيليات والمجلات والغانيات وغير ذلك ممّا تعرفون ولا تنكرون، كل ذلك من أجل الشباب، لا يريد الأعداء من هذه القنوات من شاخَ وشاب ولا من أصبح عمره فوق السبعين أو الثمانين، يريدونكم أنتم أيها الشباب، يريدون شباب الأمة ليستطيعوا بعد ذلك أن يحطموا أمة الإسلام، وأن يغزوها في فكرها وفي قناعاتها وفي قوتها وفي شبابها، فيسيطرون عليها فكريًا قبل أن يسيطروا عليها عسكريًا.
إذا علمنا ذلك فلا بد للمسلم أن يعلم ما الذي ينبغي عليه أن يقوم به لمواجهة هذا الغزو.
يا عباد الله، لا بدّ أن نعلم أن هذا الغزو أقوى ألف مرة من غزو السيف والمدفع والدبابة، الغزو الفكري عن طريق الشهوات عن طريق تحطيم القيم والمعتقدات عن طريق تحطيم المبادئ أعظم ألف مرة من تحطيم الشباب بالقتل أو غير ذلك؛ لأنه إذا حطم المسلم من الداخل فسيكون تبعًا للغرب، مسلم باسمه ولكنه غربي بفكره غربي بقناعاته غربي بأهوائه غربي بشهواته وشبهاته. هذه قضية مهمة.
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا [البقرة:217].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|