أما بعد: أيها المؤمنون، أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى في السر والعلن، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70، 71].
عباد الله، أيها المؤمنون، تأملوا معي هذا الموقف العظيم وهذه القصّة المؤثّرة التي حدَثت في القرون المفضّلة لتكون نبراسًا لنا في حياتنا:
في يوم من الأيام ـ كما ذكر ذلك الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/233) ـ كان سعيد بن المسيّب رحمه الله تعالى ورضي عنه أحد كبار التابعين ممن روى العلم عن أكابر الصحابة رضي الله عنهم الذي لم تفُته تكبيرة الإحرام أربعين سنة في مسجد النبي ، كان يتردّد عليه طلبة العلم، ومن ضمن الذين كانوا يتردّدون عليه ويحافظون على حضور دروسه تلميذ نبيه يسمَّى عبد الله بن أبي وداعة، فافتقده سعيد بن المسيّب أيامًا، فدخل عليه بعدها فقال: أين كنت يا عبد الله؟ قال: لقد توفِّيَت زوجتي فانشغلت بها، قال: ألا آذنتَنا حتى نحضرَها؟! ثم قال له: يا عبد الله، هل أحدثت زوجًا غيرها؟ هل تزوجت غيرها؟ قال: يرحمك الله يا إمام، ومن يزوّجني ولا أملك إلا درهمين أو ثلاثة؟! قال: أنا أزوِّجك، قال: وتفعل؟! قال: نعم، ثم حمد الله وأثنى عليه وصلّى على نبيه وزوّج تلميذه بدرهمين. قال عبد الله: فخرجت وأنا مهموم؛ من أين أستدِين؟! ومن أين أوفّر الصداق؟! ومن أين آتي بالمال؟! فبينما كنت في منزلي بعد صلاة المغرب وكنت صائمًا وقد قرّبت فطوري وكان خبزًا وزيتًا قال: فإذا بالباب يطرق، فقلت: من؟ قال: سعيد، قال: فحضرني كلّ من اسمه سعيد إلا سعيد بن المسيّب؛ لأنه لم يغادر بيته إلى مسجده منذ أربعين عامًا، قال: ففتحت الباب فإذا سعيد بن المسيب! إمام أهل المدينة العالم الكبير، قال: قلت: يرحمك الله لو أرسلتَ إلي لأتيتك، قال: لا، أنت أحقّ أن تؤتى، إني تذكّرت أنك رجل كنت ذا زوجة وأنك تبيت عزبًا هذه الليلة، فخشيت أن تبيت وحدَك وهذه زوجتك، قال: فدفعها إليّ وأغلق الباب، قال: فوجدتها من أحفَظ النساء لكتاب الله ولسنّة رسول الله ، ومن أجمل ما رأت عيناي.
وكانت ابنة سعيد بن المسيب هذه قد خطبها عبد الملك بن مروان خليفة المسلمين لابنه وليّ عهد المسلمين الوليد بن عبد الملك، فأبى أن يزوّجه أياها.
هذه قصة ـ أيها الإخوة الكرام ـ بين أيدينا ننقلها في هذه الأزمان والأعصار لتكون نبراسًا لنا في حياتنا، كيف نختار الزوج، وكيف نيسّر المهر، وكيف نعين الشباب على الزواج، وكيف يكون النكاح الشرعي الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون الذين يقتَدون بخيار الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحسان.
أيها المؤمنون، لقد رغّب الإسلام في الزواج وحثّ عليه، وبين النبي أنه سنّة من سننه، ومن رغب عنه فليس منه، لما دخل ثلاثة نفر من أصحاب النبي يسألون عن عبادته، فكأنهم تقالّوها، فقال أحدهم: أنا أقوم فلا أنام، أي: أقوم الليل، وقال الآخر: أصوم فلا أفطر، وقال الثالث: أنا لا أتزوّج النساء، فبلغ ذلك النبي فخرج غاضبًا وصعد المنبر وقال: ((ما بال أقوام يقولون كذا وكذا؟! أما إني أخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وأتزوّج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني)) متفق عليه.
وحثّ النبي على الزواج فقال: ((يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج؛ فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فإنه له وجاء)).
وقال عليه الصلاة والسلام: ((تزوّجوا الودود الولود؛ فإني مكاثر بكم الأنبياء يوم القيامة)) رواه أبو داود والنسائي وصححه الألباني.
والله سبحانه وتعالى يبين أن من النعم الكبرى أنه تعالى أوجد لبني آدم أزواجًا من أنفسهم: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [الروم:21].
وحث الإسلام على النكاح فقال: فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [النساء:3].
وإن من أعظم النعم ـ يا عباد الله ـ في الزواج أن يخلّف المسلم الذرية الصالحة التي تدعو له بعد وفاته، ((إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له)) رواه مسلم والأربعة.
فوجود الأولاد ووجود الذريّة من أعظم النعم التي من أسبابها الزواج ومن أسبابها تيسيره، بل إن النبي يبين أن العبدَ المسلم إذا أراد بالزواج العفاف والطهر وأن يعفَّ نفسه عن الحرام فإنّ الله يعينه وييسر أمره، ثبت في الحديث الصحيح أن النبي قال: ((ثلاثة حق على الله عونهم: المجاهد في سبيل الله، والمكاتب يريد الأداء، والناكح يريد العفاف)) رواه الترمذي والنسائي وأحمد وحسنه الألباني. من يريد أن يعف نفسه عن الحرام وعن الشهوات وعن الوقوع في المعصية فإن الله يعينه، وإن الله ييسّر له أمره، وهكذا كان أصحاب النبي .
أيها المؤمنون، إن من الأمور التي ينبغي أن ننبّه عليها وأن تكون في ذكر عند المؤمنين الصالحين الصادقين عندما يريد الزواج أن يحسن اختيار الزوجة، بل ويحسن اختيار الزوج في الوقت نفسه، يقول النبي : ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)) رواه الترمذي وابن ماجه وحسنه الألباني.
إنها قضية تحتاج منا أن نتأملها كثيرًا؛ حسن اختيار الزوج، وحسن اختيار الزوجة، يقول النبيّ كما في الصحيحين: ((تنكح المرأة لأربع: لدينها، ولمالها، ولجمالها، ولحسبها، فاظفر بذات الدين تربت يداك)). اختار لنا النبيّ ذات الدين؛ لأن الدّين يشمل الأمور كلها.
أيها الإخوة، إنها قضية مهمة ينبغي أن نتأمّلها كثيرًا في هذا الزمان الذي طغت فيه العادات والتقاليد على القيم والمبادئ إلا ما رحم ربك، يزوج الإنسان صاحبَ المال وصاحب الحسب وصاحبَ القرابة ولا يسأل عن دينه، ولا يسأل عن أخلاقه، ولا يسأل عن قيمه ومبادئه، يسلّم ابنته المسكينة الضعيفة التي هي أمانة في عنقه يسلّمها لمن لن يقومَ بشؤونها، يسلّمها لمن لن يرعاها، لمن لن يحافظ عليها، هذه جوهرة مكنونة أنت مسؤول عنها أمام الله يوم القيامة، امرأة ضعيفة تسلِّمها لعبد لا يخشى الله تعالى؟! كيف يكون موقفك أمام الله تعالى؟! ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه، إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض))، لا ينبغي أن يكون غرضنا هو المال؛ فإن المال ينتهي يا عباد الله، ولا الحسب ولا الجمال، وإن كان البحث عنه له أهمية، لكن لا ينبغي أن يكون هو المهمّ، ولا ينبغي أن يكون هو الهدَف الأول، وإنما أن يكون الهدف الأوّل هو الدين والقيم والأخلاق التي يكون عليها الإنسان، يكون عليها الزوج، تكون عليها الزوجة.
كما ينبغي علينا ـ يا عباد الله ـ إذا أردنا لبناتنا وأبنائنا الحياة السعيدة المستمرة أن نيسر المهر، وأن لا نغالي فيه؛ فإن المغالاة في المهور سبب للشقاء يا عباد الله، كما بين ذلك النبي الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى، يقول النبي : ((إن من يمن المرأة ـ أي: من بركتها، من فعلها الحسن، من سعادتها المستقبلية ـ إن من يمن المرأة تيسير خطبتها وتيسير صداقها وتيسير رحمها)) رواه أحمد والحاكم والبيهقي وحسنه الألباني، ويقول عليه الصلاة والسلام: ((أيسرهن مهرًا أكثرهن بركة)) رواه أحمد والحاكم والبيهقي وضعفه الألباني، ويقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ألا لا تغالوا في صدق النساء؛ فإنه لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى لكان أولى بذلك رسول الله ، فإنه لم يصدق أحدًا من نسائه ولم يصدق أحدا من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية) رواه أبو داود وابن ماجه وقال الألباني: حسن صحيح، وهي ما يقارب خمسمائة ريال، لم يصدق امرأة من نسائه ولا امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية، فلا ينبغي للإنسان أن يغالي في المهر، فلا خير في المغالاة يا عباد الله، فعندما جاءت امرأة إلى النبي تعرض عليه النكاح فقام أحد الصحابة يريد نكاحًا فقال له: ((التمس ولو خاتما من حديد))، فلم يجد ذلك الخاتم، فقال: ((هل تحفظ شيئًا من القرآن؟)) قال: نعم، قال: ((زوَّجتكها بما معك من القرآن)) متفق عليه.
أيها الإخوة الكرام، ليس في المغالاة في المهور بركة، بل فيه الشقاء، وفيه الفقر، وفيه عدم البركة للزوجين في مستقبل حياتهم؛ لذا ـ يا عباد الله ـ ينبغي على المؤمنين الصادقين أن يسعَوا إلى البركة، وأن يبحثوا عن البركة، وأن تكون القدوة لهم في رسول الله وفي أصحابه والتابعين لهم بإحسان، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ [الأحزاب:21].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر المولى العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
|